وجه القمص يوحنا نصيف، راعي الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، في ولاية شيكاغو بالولايات المُتحدة الأمريكية، رسالة بعنوان “الحساب المُشتَرَك”، وجاء بنصها :
عندما صار الكلمة جسدًا وسكَنَ فينا (يو1: 14)، فقد فتح لنا معه حسابًا مُشتَرَكًا Joint Account.. وجعلَ هذا الحساب لخدمة البشريّة كلّها، بعد أن وضع فيه كلّ غِناه الإلهي؛ انتصاره على الموت.. روحه القدُّوس.. كلماته الحيّة.. سلامه الفائق.. حُبّه المُشبِع.. نوره ومجده.. وقد أصبح كلّ إنسان يقبل الإيمان بالمسيح، ويدخل معه في عهد بالمعموديّة، يُضاف اسمه على هذا الحساب، ويصير وارثًا لكلّ غِنى الله.
كأيّ حساب بنكي، يمكن السحب منه، والإيداع فيه.. هكذا أيضًا حسابنا المُشترك مع الله، نستطيع أن نَسحب منه بلا حدود، إذ “ليس بكيلٍ يعطي الله الروح” (يو3: 34)، فنغتني
بالنعمة. وأيضًا نستطيع أن نودِع فيه من ثمار عمل الروح فينا، فيزيد الرصيد في الحساب، ويستطيع أيّ إنسان، يوجَد اسمه على الحِساب، أن يستفيد به ويغتني.. بمعنى أنّ
الروح القدس هو ينبوع الغِنى غير المحدود في هذا الحساب الإلهي، فهو الذي يُغنينا؛ وأيضًا مِن خلالنا يُغنِي الكنيسة كلّها، وكلّ مَن ينضَمّ لعضويتها ويُكتَب اسمه على الحساب.
لنأخُذ مِثالاً توضيحيًّا:القديس بولس الرسول عندما آمَنَ واعتمدَ، انضمّ لعضويّة جسد المسيح، وأُضيف اسمه على الحساب المُشترَك.. بدأ يَسحَب، ويغتني بالروح القدس، وبكنوز الكلمة الإلهيّة، وبالأسرار المقدّسة.. وبعد
ذلك استمرّ يتاجِر بوزناته في الخدمة والكرازة والتعليم.. ثمّ بدأ بدورِهِ يُضيف للحساب، من خير عمل الروح القدس فيه.. فأضاف مجموعة هائلة من الرسائل والتعاليم، قد صارت ميراثًا مُشتَرَكًا لكلّ المؤمنين عَبر جميع الأجيال..!
يتّضِح من هذا المثال، أنّ هذا الحساب المُشتَرَك يزيد باستمرار ولا ينقص أبدًا، فمهما سحبنا منه، نحن نغتني، ولكنّ الحساب لا ينقص.. مِثل نور الشمعة الذي يزيد وينتشر كلّما أخذنا منه..!
هنا أتذكّر، كيف كان أبونا القدّيس القمّص بيشوي كامل يُكَرّر في عِظاته: “أنّ الكنيسة غنيّة بعمل الروح القدس فيها، فلا يصحّ أن يكون أبناؤها فقراء.. وأنّ القدّيسين كانوا أغنياء، وأغنوا الكنيسة” [عظة:
القدّيسون والعظمة في المسيحيّة].. فهؤلاء القدّيسون قد استفادوا بعضويّتهم في هذا الحساب المُشتَرَك، وأضافوا له من فيض عمل الروح القدس فيهم، خبراتٍ وتعليمًا وحُبًّا.. كرصيّد حيّ يتمتّع به الآن كلّ أعضاء الجسد..!
هذا الحساب المشترَك، هو ما عبّر عنه القديس بطرس الرسول، بأنّ لنا المواعيد العُظمى والثمينة، التي صِرنا بها شُركاء الطبيعة الإلهيّة (2بط1: 4).. وهو نفس ما يؤكّده القديس كيرلّس الكبير، في تعليقاته
على إنجيل لوقا وإنجيل يوحنا: “أنّ كلمة الله وحَّد الطبيعة البشريّة بكليّتها مع نفسه.. قد صار جسدًا وأصبح إنسانًا، لا لكي يتحاشَى كلّ ما يختصّ بحالة الإنسان، ويحتقر فقرنا، بل لكي نغتني نحن بما هو له”.
هنا يظهر السؤال المُحيِّر: لماذا يوجَد بعض المسيحيّين، الذين أسماؤهم مكتوبة على هذا الحساب المُشتَرَك، الإلهي الإنساني، يعيشون كفقراءٍ تمامًا..؟! يتسَوّلون من العالَم بعض العواطف أو المديح أو الكرامة.. بل وقد تُسَيطِر عليهم ظُلمة الغرور أو البُغضة أو الحسد أو الشهوات النجسة..؟!
ربّما بعضهم لا يفهم قيمة معموديّته، وأنّ اسمه مكتوبٌ على هذا الحساب المُشترك، ويستطيع أن يكون أغنى الأغنياء؛ في المحبّة، في الروح، في الإيمان، في الطهارة (1تي4: 12)..!
وربّما بعضهم لا يهتمّ بدراسة الإنجيل، وبأن تسكُن فيه كلمة المسيح بغِنى (كو3: 16)..
وربّما البعض يُهمِل في حقّ نفسه، ولا يغتني بالنعمة المُذّخَرة له في المسيح، من خلال الصلاة وممارسة الأسرار..
بالتأكيد هذا يُحزِن قلب الله؛ أن يموت أولادُه من الفقر والجوع والعطش، بعيدًا عن بيته المملوء بالخيرات (لو15: 17).. وكما قال في سِفر إرميا: “شَعْبِي عَمِلَ شَرَّيْنِ: تَرَكُونِي أَنَا يَنْبُوعَ الْمِيَاهِ الْحَيَّةِ، لِيَنْقُرُوا لأَنْفُسِهِمْ أَبارًا، أَبارًا مُشَقَّقَةً لاَ تَضْبُطُ مَاءً” (إر2: 13)..
لعلّه يبدو واضحًا الآن، في مسيرة الحياة الروحيّة، أنّ الغِنى أو الفقر هما اختيارٌ شخصيٌّ لكلِّ إنسان؛ فكلّنا أعضاء في جسد المسيح، وأسماؤنا مكتوبة على الحساب المُشترَك.. ولكن أن نكون أغنياء فهذه قصّة أخرى، إذ يرتبط هذا
باجتهادنا في أن نكون منفتحين باستمرار على هذا الحساب المشترَك، وبنشاطِنا في الاستفادة بالرصيد غير المحدود الذي فيه، فتجري في داخلنا تيّارات أنهار المياه الحيّة (يو7: 38)، حتّى نغتني ونُغنِي كثيرين (2كو6: 10)، من فيض حركة الروح فينا..!.