في أجواء تغمرها الفرح والروحانية، احتفلت كنيسة القديسين جوارجيوس والأنبا أنطونيوس بمصر الجديدة بمرور خمسين عامًا على تأسيسها. الكنيسة، التي بدأت بخطوات متواضعة في عام 1974، تحولت إلى منارة
إيمانية وخدمية في قلب مصر الجديدة، تشهد على الإيمان الحي والمحبة المتبادلة بين أبنائها.. عشت يوم الاحتفال باليوبيل في أحضان الكنيسة، احتفالًا لم يكن مجرد سرد لتاريخ الكنيسة بل كان رسالة تعبر عن
الامتنان لكل من ساهم في نموها. احتفال يعكس روح المحبة والخدمة والعطاء، احتفال يشهد أن الكنيسة هي بناء البشر؛ عندما دخلت الكنيسة، أول ما جذبني هو الشعور العميق بالروحانية الذي يتدفق من كل زاوية في
المكان. بدأت جولتي بعبور البوابة الرئيسية، حيث استقبلني هذا الصرح المعماري الرائع الذي يجمع بين جمال الهندسة القبطية الأرثوذكسية وحداثة التصميم الذي يلبي الاحتياجات المعاصرة للمصليين. فعند
التوجه نحو الهيكل الرئيسي، تلفت انتباهك القبة الكبيرة التي تتوسط الكنيسة. هذه القبة ليست مجرد عنصر معماري، بل هي رمز للسماء، تربط بين الأرض والروح، وهي محاطة بعدد من القباب الأصغر التي تضيف
للكنيسة جوًا من القداسة والهيبة. وقفت في المنتصف للحظة، أشعر وكأنني تحت ظلال السماء نفسها، وكأنني جزء من هذه الروحانية التي تربط الأرض بالسماء. لحظات وأنا أتأمل هذه القبة الكبيرة. وصل قداسة
البابا تواضروس الثاني ليشارك شعب الكنيسة احتفالهم باليوبيل الذهبي، بترأس قداسته لصلوات القداس الإلهي في مشهد يعكس المحبة والبركة اللتين تحملها هذه الزيارة لكل الأجيال؛ التوقيت المبكر للزيارة
يحمل دلالات عميقة؛ فمع شروق الشمس، امتلأت الكنيسة بقلوب ملؤها الفرح، توافد المصلون إلى الكنيسة، بعضهم يحمل الورود والبعض الآخر يمسك بيد أبنائه، وكأنهم في يوم عيد ينتظرون بفرح لقاء بابا الكنيسة.
قداسة البابا تواضروس يدخل الكنيسة وسط حفاوة كبيرة من الشعب. الزغاريد ترتفع والأجراس والألحان تملأ الأرجاء، ويخطو قداسة البابا بهو الكنيسة بابتسامته الدافئة وقلبه الفياض بالمحبة، حاملًا في كل خطوة رسالة طمأنينة وسلام.
جميع أجيال الكنيسة، من كبار وصغار، كانوا متواجدين في الكنيسة. الكبار يتذكرون زيارات قداسة البابا شنودة الثالث في التسعينيات، بينما الشباب والأطفال يرون اليوم حلمًا يتحقق بلقاء باباهم الروحي. المشهد يجسد تلاحم الأجيال المختلفة، حيث يجتمع الجميع تحت سقف الكنيسة التي طالما كانت ملاذهم الروحي.
وأنا أتأمل فرحة الشعب، كانت أيضًا الأيقونات الموزعة على جدران الكنيسة تجذبني إليها. ما زلت أشعر أني أقف بمكان مختلف؛ هنا الأيقونات لا تمثل فقط مشاهد من حياة المسيح والقديسين، بل هي نوافذ إلى
السماء، تأخذك إلى عالم من التأمل الروحي. وجوه القديسين المرسومة تبدو مسطحة وبسيطة، لكنك تشعر بجمالها الروحي العميق. هنا، تعكس الأيقونة الرؤية القبطية التي تركز على التجلي الروحي بدلًا من التشابه الجسدي.
وتعود عيني لأيقونة “بابا المحبة” قداسة البابا تواضروس، الذي أضاف على هذا اليوم، يوم الاحتفال باليوبيل الذهبي للكنيسة، لمسة تاريخية. ففي كلمته خلال الاحتفال، أشار قداسة البابا تواضروس
إلى أن اليوبيل الذهبي ليس مجرد مناسبة تاريخية، بل فرصة للتأمل في مسيرة الكنيسة ودورها في حياة أبنائها. وأكد أن الكنيسة ليست فقط مبنى، بل هي قلب ينبض بالإيمان والمحبة، واستمرارها في بناء
مجتمع قوي يعتز بإيمانه وتراثه. مضيفًا أن تاريخ الكنيسة مليء بالتقاليد الراسخة وأسلوب الخدمة الذي تسلم من جيل إلى جيل، وهي كنيسة عاشت بالإيمان ونقلت رسالة الإنجيل بتفانٍ وإخلاص. وفي هذا
الصباح المبارك، نتأمل في إصحاح الويلات الذي يفتح أعيننا على ضرورة أن تكون حياتنا الروحية صادقة بعيدة عن الرياء. فالكنيسة دائمًا ما تنبهنا إلى أن نعيش حياة تمتلئ بالصدق والإيمان الحقيقي.
المحطة الأولى: “لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم”. هذا التحذير الإلهي يدعونا إلى أن نرتفع بأفكارنا ورغباتنا نحو السماء. العالم مليء بالملذات والشهوات الزائلة، لكن الإنسان المسيحي مدعو لأن يوجه شهوة قلبه وآماله إلى السماء حيث البركات الأبدية.
المحطة الثانية: “قبّلوا بعضكم بعضًا بقبلة مقدسة”. هذه الدعوة تحثنا على أن نكون صانعي سلام في كل مكان. يجب أن تكون حياتنا شهادة لحب المسيح، وأن نملأ قلوبنا بمشاعر الصدق والسلام في البيت، في العمل، وفي المجتمع. فقبلة السلام ليست مجرد عادة، بل هي علامة على القلب النقي المليء بالسلام.
المحطة الثالثة: عندما يقول الشماس في القداس: “أيها الجالسون قفوا”، هو ليس مجرد دعوة للوقوف الجسدي، بل هو رمز روحي يعبر عن التوبة والعودة من حالة الضعف. الكنيسة تدعونا دائمًا أن نكون يقظين روحياً وأن نساعد الآخرين، ليس جسديًا فحسب، بل روحيًا أيضًا، ليقفوا معنا في الطريق إلى الخلاص.
المحطة الرابعة: عندما يقول الشماس: “إلى الشرق انظروا”، المقصود هنا ليس النظر الجسدي فقط، بل هو دعوة للاستعداد الروحي. الشرق يمثل النور والمجيء الثاني للسيد المسيح، وتذكير لنا بأن نكون دائمًا في حالة من الاستعداد وعدم الانشغال بأمور الدنيا الزائلة. فلنحرص على أن تظل عيوننا مركزة على النور، وأن تكون حياتنا مستقيمة مملوءة بالاستنارة الروحية.
المحطة الخامسة: “اسجدوا لله بخوف ورعدة”، وهي دعوة إلى الاتضاع والخضوع لله.
استكمل قداسة البابا صلوات القداس الإلهي وسط فرحة أبناء الكنيسة التي ظهرت في عيونهم وأصواتهم بالمردات. والصلوات ترتفع بكل فرحة. كانت عيني تعود لتفاصيل الكنيسة؛ هنا النوافذ المزينة بالزجاج المعشق أدهشتني. الضوء المتسلل عبر الألوان الزاهية يحول ضوء الشمس إلى مشاهد بديعة من الكتاب المقدس وحياة القديسين. إنه شعور يصعب وصفه بالكلمات، فأنت تقف هناك وكأنك محاط بالألوان والقصص الروحية.
تعمقت في تفاصيل بناء الكنيسة، الذي بدأ في أوائل السبعينيات، مع مواد البناء المتينة التي تجمع بين التقاليد والحداثة. الطراز مزيج متناغم من الحجر الطبيعي الأبيض والزخارف القبطية، مما يجعل الكنيسة تبدو كقطعة من التاريخ العريق الممزوج بالحاضر.
بعد صلوات القداس، جلس بابا المحبة وسط أبنائه. واستهل القمص أنطونيوس رياض، راعي الكنيسة، الاحتفال بكلمة مؤثرة، عبّر فيها عن عميق امتنانه لقداسة البابا تواضروس الثاني على حضوره ومشاركته في هذا اليوم العظيم. وتحدث القمص
أنطونيوس عن تاريخ الكنيسة، التي بدأت بخطوات متواضعة لكنها نمت وتوسعت لتصبح اليوم منارة إيمانية وخدمية بارزة في مصر الجديدة. وأوضح أن الكنيسة تقدم مجموعة واسعة من الخدمات الروحية والاجتماعية، مشيرًا إلى الجهود الكبيرة
التي يبذلها الخدام والشباب في مدارس الأحد، بالإضافة إلى الأنشطة الخدمية المتنوعة التي تشمل خدمة الأسر المحتاجة، والأنشطة الثقافية والتعليمية التي تلعب دورًا كبيرًا في تربية وتنشئة الأجيال الجديدة على المبادئ المسيحية.
ثم أعطى الكلمة للدكتور ماجد رياض، نائب رئيس مجلس الكنيسة وخادم الشباب في الكنيسة. واستعرض الدكتور ماجد في كلمته مسيرة الكنيسة منذ نشأتها قبل خمسين عامًا، مشيرًا إلى التحديات التي واجهتها
الكنيسة في سنواتها الأولى، وكيف نجحت في تجاوزها بفضل توحد الشعب تحت مظلة المحبة والعمل الجماعي. وأشاد بالدور الهام الذي لعبه القادة الروحيون في توجيه الكنيسة نحو طريق النمو والاستقرار.
وتحدث عن مراحل التطور التي مرت بها الكنيسة، من حيث توسيع الأنشطة والخدمات التي تقدمها للشعب القبطي، سواء على المستوى الروحي أو الاجتماعي، مشيرًا إلى التحديات التي واجهتها الكنيسة في
سنواتها الأولى، وكيف نجحت في تجاوزها بفضل توحُّد الشعب تحت مظلة المحبة والعمل الجماعيّ. وأشاد بالدور الهام الذي لعبه القادة الروحيّون في توجيه الكنيسة نحو طريق النموّ والاستقرار. وتحدّث عن
مراحل التطور التي مرّت بها الكنيسة، من حيث توسيع الأنشطة والخدمات التي تقدّمها للشعب القبطيّ، سواء على المستوى الروحيّ أو الاجتماعيّ، مشيرًا إلى الأثر الإيجابيّ الذي تركته الكنيسة في حياة أفراد المجتمع.
وفي خطوة مليئة بالمحبة الأبوية، حرص قداسة البابا تواضروس الثاني على الجلوس وسط الشعب للاستماع إلى كورال الكنيسة، الذي قدّم مجموعة من الترانيم والألحان الروحية. وأعرب قداسة البابا عن إعجابه
الشديد بأداء الكورال، وأشاد بالجهود المبذولة لتقديم هذه الترانيم بروحانية عالية. وبعد ذلك، شاهد قداسة البابا فيلمًا تسجيليًّا عن بداية الكنيسة منذ أن كانت أرضًا ومراحل تأسيسها وخدماتها الكبيرة
اليوم؛ وقدّم آباء كهنة الكنيسة أيقونة “الراعي الصالح” لقداسة البابا كعلامة محبة لراعيته ومحبته الدائمة لهم. ثم قام قداسة البابا بالتقاط الصور التذكارية مع كل أبنائه، وقدم بركته للشعب الحاضر فردًا فردًا.
ثم انتقل قداسة البابا من الكنيسة لزيارة مبنى الخدمات، حيث التقى بمجلس الكنيسة، في لقاء يعكس الأبوّة والمحبة التي يقدمها قداسته للكنيسة، مؤكدًا حرصه على متابعة كافة جوانب العمل الخدميّ
والروحيّ. بعد ذلك، توجه إلى مكتبة الأطفال، حيث جلس وسط الأطفال وتبادل معهم الأحاديث في جو من البساطة والمحبة. وطرح البابا بعض الأسئلة على الأطفال بروح الأبوة، واستمع إلى إجاباتهم التي
كانت تعكس براءة الطفولة وتفاعلهم مع التعليم الكنسيّ. ثم تفقد قداسة البابا مكتبة الاستعارة، حيث اطلع على الأجزاء المختلفة فيها وعلى التكنولوجيا الحديثة المستخدمة في تنظيم وإدارة المكتبة.
وفي نهاية جولته، جلس قداسة البابا تواضروس على مائدة أغابي وسط الآباء الكهنة ومجلس الكنيسة والخدام والشعب. خلال هذه الجلسة، استمع البابا إلى عرض مفصل عن خدمات الكنيسة
وأوضاعها المختلفة ومشروعاتها، وأكد حرصه على الاطمئنان على كل تفاصيل العمل الخدميّ داخل الكنيسة. وأثناء الجلسة، قطع قداسة البابا تورتة اليوبيل الذهبيّ في لحظة احتفالية
مؤثرة، عبّرت عن الفرح والامتنان لكل ما تحقق خلال الخمسين عامًا الماضية. وفي هذه اللحظات، بكل محبة أبوية قال البابا لأبنائه: “إن الكنيسة ستظل تكبر في النعمة والبركة بفضل
المحبة المتبادلة بين أبنائها، فالمحبة هي الأساس الذي يُبنى عليه كل عمل ناجح، وأنها القوة الدافعة التي ستمكّن الكنيسة من الاستمرار في النمو وتقديم المزيد من الخدمات لأبنائها والمجتمع”.
خرج قداسة البابا من مبنى الخدمات بعد زيارة محبة ستظل محفورة في قلوب شعب الكنيسة.. الكنيسة التي ستستمر في أداء رسالتها الخدمية والروحية جيلاً بعد جيل.