انتقادات واستنكارات واسعة وجهت ضد منظمي احتفالية الأوليمبياد بباريس، بسبب محاكاة لوحة العشاء الأخير ضمن عروض افتتاح دورة الألعاب الأوليمبية التي أقيمت يوم الجمعة الماضي على ضفاف نهر السين شمالي فرنسا، وسط حضور غفير من الجماهير ووفود
الدول المشاركة، واعتبر الكثير حول العالم أن العرض بمثابة سخرية من لوحة “العشاء الأخير” الشهيرة للفنان الإيطالي ليوناردو دافنشي، حيث يظهر السيد المسيح في هذه اللوحة وهو يتوسط تلاميذه لتناول العشاء الأخير قبل القبض عليه ومحاكمته من قبل الرومان.
وقام السيد المسيح في هذا اليوم بتأسيس سر الإفخارستيا أحد أهم أسرار الكنيسة؛ لذلك يُعد هذا المشهد له قدسية كبيرة في قلوب مسيحيي العالم؛ وهو ما بدأ واضحاً خلال
انتقادهم المشهد الذي قدمته فرنسا خلال عرض دراغ كوين الساخر، حيث ظهر فيه رجال يرتدون ملابس نسائية ويضعون مكياجًا، كما شمل الحدث، الذي استمر 3 ساعات، لوحات لراقصين
شبه عراة، وتصويرًا لتوجهات جنسية مختلفة، وأقليات عرقية، واعتبره الكثيرون حول العالم من قادة سياسيين محافظين وشخصيات دينية أن هذا العرض يروج للمثلية ويسيء للمسيحية.
استنكرت الكنائس حول العالم هذا الحدث، وهذا ما لم تفوته الكنائس المصرية، حيث رفضت ما حدث وأعربت عن رفضها التام المساس بالمقدسات الدينية وقيم المجتمع، كما شاركها في ذلك الأزهر الشريف.
وأعربت الكنيسة القبطية عن استيائها مما حدث، عبر بيان نشرته عبر صفحتها الرسمية، وقالت : «تعرب الكنيسة القبطية الأرثوذكسية برئاسة قداسة البابا تواضروس الثاني، عن استيائها واستنكارها البالغين، مما تضمنه حفل افتتاح أوليمبياد باريس 2024، من تجسيد مشهد العشاء الأخير للسيد المسيح مع تلاميذه، والذي أسس فيه سر الإفخارستيا أقدم وأقدس أسرار الكنيسة وممارساتها على الإطلاق».
وأضاف قداسة البابا تواضروس الثاني بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية خلال البيان ، من المؤسف الطريقة التي قُدِم بها هذا المشهد تحمل إساءة بالغة لأحد المعتقدات الدينية الأساسية التي تقوم عليها المسيحية.
وتابع : «من العجيب أن نرى هذا المشهد في افتتاح الأوليمبياد، في الوقت الذي تتعارض فيه مثل هذه الأفعال مع ميثاق الأوليمبياد والقيم الأساسية المعلنة له، التي تدعو إلى احترام المبادئ الأخلاقية العالمية
الأساسية، وقيمة تقديم القدوة الحسنة، واحترام الجميع دون تمييز، وهو ما رأينا عكسه في حفل الافتتاح المذكور، في سبيل دفع أجندات فكرية بعينها تخدم تيارات لا علاقة لها بالرياضة، التي ينبغي أن تجمع، لا أن تفرِّق».
وأكد قداسة البابا تواضروس أن هذه الإساءة تستدعي اعتذارًا واضحًا وجادًّا من الهيئات المنظمة لأوليمبياد باريس 2024، لكل المسيحيين الذين استاؤوا من هذا المشهد المؤسف، الذي شاب ما كنا نظن أنه عرس رياضي عالمي من شأنه أن يدخل الفرح والبهجة على قلوب جميع المشاركين والمشاهدين، مع ضمانات كافية لعدم تكرار مثل هذه التصرفات المسيئة.
واختتم ، نصلي أن يحفظ الرب السلام في كل العالم ويحمي الإنسان والإنسانية من كل شر.
كما عبرت الكنيسة الإنجيلية بمصر، برئاسة الدكتور القس أندريه زكي، عن حزنها العميق إزاء العمل الفني غير اللائق الذي شهدته مراسم افتتاح الألعاب الأوليمبية في باريس 2024، حيث شددت على أن احتفالات الألعاب الأوليمبية يجب أن لا
تُستغل أبدًا كمنصة للصراع الديني والثقافي، أو محاولة للإساءة بأي شكل، بل على العكس، عليها أن تقوم بدورها التاريخي في استيعاب وتشجيع الرياضيين من كل أنحاء العالم، واحترام التنوع وتعزيز التفاهم بين الشعوب والأمم والثقافات.
وأضافت الطائفة الإنجيلية: «ما حدث في باريس يضرب جذور القيم الأخلاقية التي تسعى لها الروح الرياضية للألعاب الأوليمبية، ونحن نحذر من أن مثل هذه المواقف قد تفقد اللجنة الأوليمبية الدولية هويتها الرياضية المميزة ورسالتها الإنسانية».
وأوضحت: «إن الحفاظ على كرامة الإنسان هو أساس القيم الأخلاقية الأصيلة للأديان، وحرية الفن والإبداع هو المصدر الأساسي لبناء السلام العالمي والتقارب بين البشر، وهذا يتطلب احترامًا دوليًّا من الجميع، واعتبارًا لكل المقدسات والخلفيات الإنسانية المختلفة».
وأصدرت كنائس مجلس كنائس الشرق الأوسط، بيانًا بشأن ما جرى في افتتاح الألعاب الأوليمبية في فرنسا من الاستهزاء بسر الأسرار في المسيحية، وجاء نص البيان كالآتي:
بكثير من المحبة الممزوجة بالاستغراب والاستهجان، شاهدنا ما جرى خلال حفل افتتاح الألعاب الأوليمبية في فرنسا، من الاستهزاء بسر الأسرار في المسيحية، وبما هو مقدس لدى مليارات الناس حول العالم إن الحرية والتنوع والإبداع لا يتماشون مع إهانة معتقدات الغير، ولا مع السخرية منها، بأساليب لا تمتّ الى الرقي الإنساني بِصِلة.
وتابعت: «كانت المسيحية هي السباقة في صون الحريات، وحماية التنوع، والحفاظ على كرامة الإنسان وحقوقه، لذلك لا نقبل تعريضها للامتهان من بعض الجماعات، علما أن كل إنسان هو على صورة الله ومثاله وهو مدعو للخلاص، وإذا كان الاحترام والصداقة هما قيمتان أساسيتان في ثقافة الألعاب الأوليمبية، فكيف تقبل اللجنة الأوليمبية ان تَنقُض قيمها؟».
وأكملت: «الحرية مسئولية كبرى في تاريخ الإنسانية، ولا بد لمن يمارسها أن يشعر بمسئولية احترام الغير ومعتقداته، والدخول في حوار معه لأن السخرية من معتقدات الغير تكشف عن نزعة دفينة نحو قمعه، قد تقود الذي يقوم بها الى ممارسات لا تقبلها قيم الديموقراطية».
وأضافت: «إن ما جرى إنما يدل على جهل تام لمفهومي الحرية والكرامة الإنسانية، وهذا أمر مقلق جدا بالنسبة الى مستقبل الإنسانية، لأن استغلال منبر عالمي بهذا الأسلوب، إنما يعني الانحدار بالتلاقي
الإنساني الحضاري العالمي الى أدنى مستوى في العلاقات الإنسانية، وتاليا إلى انتفاء القبول بالتنوع في الحياة الاجتماعية؛ مما يفضي إلى بروز النزعة الإلغائية والإقصائية تجاه الآخر، لقد ألهمت
المسيحية، عبر تاريخها، التطور الإنساني في مجالات العلوم والثقافة والفنون، وهي مستمرة في رسالتها هذه الى منتهى الدهر، و”أبواب الجحيم لن تقوى عليها”. “متى 16: 18″، إننا، نصلي أن يلهم الرب القدير سواء
السبيل لجميع بني البشر، وأن يمنع من أن تعود المجتمعات، باسم الحريات، إلى عصر الظلمات والانحطاط والبدائية. لقد شكّل انتشار المسيحية القائمة أساسًا على المحبة، حجر الزاوية لكل ما هو راق ونبيل في العالم».
وتابعت: «نقول لمن قام بهذا العمل، إن الرب يسوع يقول لهم كما قال للذين صلبوه، (اغفر لهم يا أبتاه لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون) (لوقا 23: 34)، وإن احترام حريات الغير، وصيانة كرامته الإنسانية، وبناء علاقات سليمة بين البشر، يفترضان الرجوع عن الخطأ، وتقديم الاعتذار العلني والصريح من جميع الذين جرى جَرحُ مشاعرهم وتم الاستهزاء بمقدساتهم حول العالم».
حرصت مؤسسة الأزهر الشريف على إدانة ما حدث معتبرة أن هذا العرض صور السيد المسيح في صورة مسيئة، وقال الأزهر في بيانه الذي نشره عبر مواقع التواصل الاجتماعي يدين الأزهر الشريف هذه المشاهد التي تصدرت افتتاح دورة الألعاب
الأوليمبية بباريس، وأثارت غضبًا عالميًا واسعًا، وهي تصور السيد المسيح عليه السلام في صورة مسيئة لشخصه الكريم، ولمقام النبوة الرفيع، وبأسلوب همجي طائش، لا يحترم مشاعر المؤمنين بالأديان، وبالأخلاق والقيم الإنسانية الرفيعة.
وأضاف البيان: «ويؤكد الأزهر رفضه الدائم لكل محاولات المساس بأي نبي من أنبياء الله، فالأنبياء والرسل هم صفوة خلق الله، اجتباهم وفضلهم على سائر خلقه ليحملوا رسالة الخير للعالمين، ويُؤمن الأزهر ومِن خلفه
ما يَقرُب من ملياري مُسلم بأن عيسى عليه السلام هو رسول الله ﴿وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ﴾ [النِّساء: 171]، وسَمَّاه الله في القرآن الكريم: ﴿وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ [آل عمران: 45]، وعده من أُولي العزم من الرسل، ويؤمن المسلمون بأن الإساءة إليه عليه السلام، أو إلى أي نبي من إخوانه عليهم السلام؛ عار على مرتكبي هذه الإساءة الشنيعة ومن يقبلونها».
كما حذر الأزهر العالم من خطورة استغلال المناسبات العالمية لتطبيع الإساءة للدين، وترويج الأمراض المجتمعية الهدامة والمخزية، كالشذوذ والتحول الجنسي، وينادي بضرورة الاتحاد للتصدي في وجه هذا التيار المنحرف المتدني، الذي يستهدف
إقصاء الدين، وتأليه الشهوات الجنسية الهابطة التي تنشر الأمراض الصحية والأخلاقية، وتفرض نمط حياة حيوانية تُنافي الفطرة الإنسانية السليمة، وتستميت في تطبيعه وفرضه على المجتمعات بكلل السبل والوسائل الممكنة وغير الممكنة، حسب البيان.
من جانبه، دافع الموسيقي الفرنسي الشهير توماس جولي، المدير الإبداعي للحفل، عن قراراته قبل انطلاق حفل الافتتاح، قائلًا إن مشهد العشاء الأخير كان متوافقًا مع تقاليد فرنسا الطويلة من العلمانية.
وتابع: «في فرنسا لدينا حرية الإبداع والحرية الفنية.. ونحن محظوظون لأننا نعيش في بلد حر»، مُردفًا: «نعيش في جمهورية، ولدينا الحق في حب من نريد، ولدينا الحق في ألا نكون من المصلين».
كما أوضح توماس جولي، مخرج الإختفالية، أن اللوحة الفنية التي أثارت غضب الكثير من المسيحيين لم تكن تمثيلا للعشاء الأخير ليوناردو دافنشي، بل كانت تمثيلًا لمهرجان وثني مرتبط بآلهة الأوليمبي، وجاء ذلك خلال
تصريح له بمجلة «Gala» هي مجلة تعني بأخبار المشاهير: «أعتقد أن الأمر كان واضحًا تمامًا، هناك ديونيسوس الذي وصل إلى هذه الطاولة. إنه هناك، لماذا؟ لأنه إله الاحتفال والنبيذ وأب سيكوانا، الإلهة المرتبطة بالنهر».
وأضاف: «كانت الفكرة بالأحرى أن يكون هناك مهرجان وثني كبير مرتبط بآلهة أوليمبوس، ويري البعض أنها تمثيل للوحة وليمة الآلهة فوق جبل الأوليمب للفنان الديناماركي (Jan Harmensz van Biljert)
في القرن السادس عشر، حيث اجتمعت الآلهة في مأدبة احتفالًا بزواج ثيتيس وبيليوس. على اليسار تقف مينيرفا وديانا والمريخ والزهرة برفقة كيوبيد. فلورا، إلهة الربيع، تقف خلفهم.
أبولو المتوج، والذي يمكن التعرف عليه من خلال قيثارته، يترأس وسط الطاولة، نتعرف أيضًا على هرقل بهراوته ونبتون برمحه الثلاثي في أقصى اليمين، وضعت إيريس تفاحة الخلاف على الطاولة».
من جانبه، قال المفكر القبطي كمال زاخر في تصريحات خاصة لـ«البوابة نيوز»: «ما حدث من استعراضات أوليمبياد باريس وردود الفعل الرافضة والمحتجة على احتوائه فقرات فيها تهكم على بعض المعتقدات الدينية يكشف وبجلاء الأزمة القائمة بين ثقافتين، ففرنسا تعد الدولة الأوروبية المتبنية التوجه العلماني، والتى وصفها عميد الأدب العربي د. طه حسين بلد الجن والملائكة».
وتابع: «وقيل فى تبرير اللوحة الاستعراضية التي تسخر من الرموز المسيحية، إنها تنطلق من لوحة عيد الآلهة التي رسمها جان هارمنز فان بيلجيرت، وفاتهم أن ذات اللوحة في الواقع هى سخرية من لوحة ليوناردو دا فينشي (العشاء الأخير)، التي تمثل الرموز محل الاستعراض، والتي تم رسمها قبل أكثر من 130 عامًا من عيد الآلهة».
وأضاف: «الضجة المُثارة طبيعية لأنها تعبر عن الهوة الشاسعة بين الذهنية المتدينة، والذهنية التي تتبنى الحرية في أقصى صورها، لكنها تكشف عن أزمة أعمق فى مجتمعات الحريات، وهي القبول بالتوجهات الشاذة سواء فى دوائر الالحاد أو العلاقات الجنسية خارج منظومة الزواج أو المثلية الجنسية، وادراجها ضمن محاور الحرية».
واختتم «زاخر»، قائلًا: «ولعل هذا الحدث وما أثاره من موجات غضب وسخط ينبه المؤسسات الدينية لقصورها وتقصيرها في مهمتها الروحية والدعوية بدلًا من الاكتفاء ببيانات الشجب والاستنكار الذي سترتد لها بموجات إباحية إلحادية تقتحم بلادها وشبابها، وعلينا أن نملك شجاعة مواجهة تلك التيارات بالرأي والحجة وقبلهما تقديم القدوة التي هى للأسف غائبة عن المجتمعات المتدينة خاصة فى بلاد المشرق».
بينما يقول د. نجيب جورج عوض الباحث الأكاديمي المتخصص في الفلسفة والعلوم الإنسانية: «فقط لمن تصدوا للدفاع عن المسيح وعن الاساءة اليه من خلال تجسيد لوحة العشاء الاخير لليوناردو
ديفينشي من شخصيات متنوعة جنسياً ومتعددة انماط الجندرية، وراحوا ينشرون الوطنيات العظيمة دفاعا عن المسيح والمسيحية ، اود ان اقول ما يلي: انا مسيحي واستاذ في اللاهوت وكنت اخدم
الكنيسة في سنوات ماضية ولا ارى في هذه اللوحة التعبيرية اي اهانة لا للمسيح ولا لتلاميذه ولا للمسيحية وباي شكل من الاشكال…. المسيحية تفرق بين الفن والتعبير الفني وبين الخطاب الايماني العرفاني».
وتابع، «في النهاية ليوناردو دافنشي ايضا فنان ورسام يقدم تعبير بشري ولوحته ليست انجيل او تعريف لعقيدة…. ثم من قال ان في المسيحية موقف واحد من التعدد الجنسي ؟؟؟ ارجو ان لا يتحدث احد باسم المسيحيين
ومشاعرهم واحاسيسهم ويلعب دور الوصي عليهم، حتى لو كان من يتحدث مسيحيا….. الغيرة على لوحة ليوناردو تخدم ليوناردو ولا علاقة لها بالمسيح ، فتلك اللوحة ليست كتاب مقدس ولا هي ايقونة وعلى حد علمي ان
يسوع الناصري لم يكن رساما ولم يرسم لوحة العشاء الاخير …. نحن لا نعرف ان كان المسيح يبدو كما رسمه ليوناردو حتى…. ونعم، حفل افتتاح الاولمبياد كان برايي كاملا ولا تشوبه شائبة وعمل مستقبلي وعبقري رائع.
فلا تحاولوا ان تمتطوا كتف المسيح لاستقتالكم لانتقاد فرنسا….. تمرغوا في طين اخر».
ومع تلك العاصفة من الانتقادات، أصدرت اللجنة الأوليمبية الدولية اعتذارًا رسميًا، وقامت بحذف فيديو العرض عبر منصاتها علي مواقع التواصل الاجتماعي، وقالت في بيان لها، إنه لم تكن هناك أي نية أبدًا لإظهار عدم الاحترام لأي مجموعة دينية.
كما قالت آن ديكامب، المتحدثة باسم أوليمبياد باريس 2024، في مؤتمر صحفي: «من الواضح أنه لم تكن هناك نية مُطلقًا لإظهار عدم الاحترام لأي مجموعة دينية. على العكس من ذلك، كنا نعتزم إظهار التسامح المجتمعي، وإذا شعر الناس بأي إساءة، فنحن آسفون».
وأضافت «ديكامب»: «بالنظر إلى نتيجة استطلاعات الرأي التي شاركناها، نعتقد أن هذا الطموح قد تحقق»، في إشارة إلى استطلاعات الرأي التي قالت إن 86% من الشعب الفرنسي يعتقدون أن حفل الافتتاح كان ناجحًا».