هذا العيد يسمونه أيضا بعيد الظهور الإلهي (الثيئوفانيا), إذ فيه ظهر الثالوث القدوس: الابن يتعمد, والآب من السماء يقول هذا هو ابني الحبيب
الذي به سررت, والروح القدس علي هيئة حمامة. ولذلك فإن عماد السيد المسيح يثبت عقيدة الثالوث.. إلي جوار ذلك قول الرب لتلاميذه قبل صعوده
اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم, وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس (متي 28:19), ولم يقل بأسماء لأن الثلاثة واحد, يضاف إلي هذا, ما ورد في (1يو 5:7).
وحسنا إن الكنيسة سمته عيد الغطاس.
لأنها بذلك تذكر الشعب فيه أن السيد المسيح تعمد بالتغطيس, وأن المؤمنين في العهد الجديد يتعمدون بالتغطيس
أيضا, كما تعمد الخصي الحبشي في بداية العصر الرسولي علي يد فيلبس ولما صعدا من الماء, خطف روح الرب
فيلبس (أع 8: 39). ولأن المعمودية صبغة, والصبغة تتم بالتغطيس, ولأن المعمودية دفن مع المسيح (كو 2: 12), والدفن يتم بالتغطيس.
التواضع في المعمودية:
معمودية يوحنا كانت معمودية التوبة. ولم يكن السيد المسيح محتاجا إلي توبة. فلماذا تعمد؟
تعمد نائبا عن البشرية في الدخول إلي معمودية التوبة.. كما صام عنا. وهو غير محتاج إلي صوم… وكما مات عنا, وهو غير مستحق للموت.
وكل ذلك ليقدم للآب صورة كاملة للبشرية. ويدفع ثمن خطاياها… كذلك هو أيضا تقدم إلي المعمودية لكي يكمل كل بر (متي 4:15) لكي لا يبكته أحد علي خطية… لكي يكون أمام الكل خاضعا للناموس, مع أنه فوق الناموس.
وهكذا سار مع الشعب, كواحد منهم, متقدما إلي معمودية توبة.
أي تواضع هذا, الذي يقدمه الرب لنا؟! ولما اعتفي يوحنا فقال أنا المحتاج أن أعتمد منه أجاب الرب اسمح الآن.. لنفس الوضع سمح أن أمه العذراء
المثالية في طهرها التي ولدته من الروح القدس بغير دنس, تتقدم لما تمت أيام تطهيرها, لتقدم محرقة (لو2: 22)… وما كانت هي محتاجة إطلاقا إلي أيام تطهير.
إن السيد المسيح ما كان خاطئا ليتقدم إلي معمودية التوبة. إنه كان (حامل خطايا), حمل خطايا العالم كله. وبهذا شهد له يوحنا الذي عمده (يو1:19).
لقد حمل المسيح خطايا العالم, ونزل بها إلي المعمودية, كذلك حمل المسيح هذه الخطايا علي الصليب, ومحاها بدمه.. كلنا كغنم ضللنا, ملنا كل واحد إلي طريقه, والرب وضع عليه إثم جميعنا (إش 53:6).
ومن تواضعه أيضا, أنه نال العماد من يوحنا.
رئيس الكهنة الأعظم, ومانح الكهنوت, نال المعمودية من أحد كهنته, من أحد أولاده.. من إنسان اعترف قائلا له أنا المحتاج أن أعتمد منك (متي 4: 14). كما اعترف قائلا: لست مستحقا أن أنحني وأحل سيور حذائه.
كهنوت السيد المسيح ملكي صادقي.. وكهنوت يوحنا هاروني.
والمعروف أن كهنوت ملكي صادق أعظم من كهنوت هارون, كما شرح معلمنا القديس بولس الرسول في (عب7). كما أن ملكي صادق بارك أبانا إبراهيم,
الذي كان في صلبه هارون (عب7) ومع ذلك بكل تواضع تقدم الذي هو كاهن إلي الأبد علي طقس ملكي صادق (مز110:4) لينال المعمودية أحد أولاد هارون!
حقا, إن قصة العماد مملوءة بأمثلة عديدة من التواضع ومن تواضع الرب أيضا. أنه بعد كل الأمجاد التي ظهرت أثناء عماده. وحلول الروس القدس وشهادة يوحنا… بعد
كل هذا صعد إلي الجبل ليجرب من الشيطان سمح الشيطان أن يجربه. بكل جرأة أو علي الأصح بكل كبرياء.. ورد عليه الرب بكل هدوء وبتواضعه قهر كبرياء الشيطان.
ومن تواضع الرب أنه خضع للناموس في السن كما في العماد انتظر حتي بلغ سن الثلاثين حسب الناموس وما كان أسهل عليه أن
يبدأ قبل ذلك بسنوات طويلة, وهو الذي في سن الثانية عشرة أذهل الشيوخ المعلمين, فبهتوا من فهمه وأجوبته (لو2: 47).. ولكنه
انتظر إلي سن الثلاثين. وانتظر حتي اعتمد, وحتي قضي فترة خلوة علي الجبل… ثم بدأ العمل.. ويوحنا المعمدان الذي عمده كان متواضعا..
علي الرغم من أنه كان عظيما وقد شهد له الرب نفسه بالعظمة, وشهد له ملاك الرب أيضا.
يوحنا المعمدان
كثيرون شهد لهم الناس بالعظمة وكانت شهادات زائفة أو خاطئة أو جاهلة أو متعلقة.. أما يوحنا المعمدان فإن الذي شهد له بالعظمة هو الله وملاكه. قال عنه ملاك الرب الذي بشر أباه زكريا بميلاده ويكون عظيما أمام الرب(لو1: 15).
وهكذا لصقت العظمة بيوحنا من قبل أن يولد بشهادة الرب.
أعمال عظيمة قيلت عن هذا النبي العظيم: منها أنه يرد كثيرين إلي الرب إلههم يرد العصاة إلي فكر الأبرار يهيئ للرب شعبا مستعدا يهيئ الطريق قدام الرب يتقدم أمامه بروح إليليا وقوته.
وفي كل ذلك نسأل الملاك الذي بشر بميلاده عن سر هذه العظمة العجيبة فيجيبنا بقوله: أنه من بطن أمه يمتلئ من الروح القدس (لو1: 15).
حقا, هذا سر عظمة يوحنا, سمعنا في الكتاب المقدس أن الروح القدس حل علي كثيرين: حل روح الرب علي شمشون وعلي شاول وعلي داود وعلي كثير من
الأنبياء. لكن لم نسمع مطلقا عن أحد منهم أنه من بطن أمه, قد امتلأ من الروح القدس. هذا الأمر قد اختص به يوحنا المعمدان. لم يسبقه إليه أحد.
وعظمة يوحنا المعمدان لم يشهد بها ملاك الرب فقط. إنما أكثر من هذا شهد بها رب المجد ذاته حينما قال: الحق أقول لكم لم يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان (متي11: 11).
قال عنه الكتاب أيضا إنه ملاك:
أو هو الملاك الذي يهيئ الطريق قدام الرب (مر 1:2).
وشهد بهذا اللقب السيد المسيح نفسه (متي11:10).
كان أيضا كاهنا من بني هارون, ابنا لزكريا الكاهن.. ولعل أعظم ما في حياة يوحنا أنه عمد السيد المسيح له المجد.
أتي إليه السيد المسيح ليعتمد منه كباقي الناس.. ومن أجل الطاعة قام يوحنا بعماد المسيح. واستحق أن يري الروح القدس بهيئة حمامة, وأن يسمع صوت الآب قائلا هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت (متي 3: 17,16) وهكذا تمتع بالثالوث الأقدس روحا وحسا..
وتظهر عظمة يوحنا المعمدان في أنه تمم عمله العظيم في مدة قصيرة لعلها ستة أشهر أو أزيد قليلا..
هذه الستة أشهر هي الفرق بين عمره وعمر السيد المسيح جسديا. وكل منهما بدأ عمله في نحو الثلاثين من عمره.
ولما ظهر المسيح بدأ يختفي هو.. وفي هذه المدة الوجيزة استطاع هذا القديس أن يهدي كثيرين إلي التوبة, وأن يشهد بشهادة قوية للرب, وأن يمهد الطريق أمام المسيح, وقدم للعالم كله مثالا عمليا بأن:
قوة الخدمة ليست في طولها, وإنما في عملها, في مدي فاعليتها ومدي تأثيرها وثمرها.