تصوّروا معى هذه الصورة القلمية الطريفة عن أسرة عريقة، لكنها رقيقةُ الحال. تكدُّ وتكافحُ فى نهارها وليلها حتى توفّر بالكاد قوتَ يومِها ومصاريفَ تعليم أبنائها. نقرر زيارة هذه الأسرة. نطرق البابَ وندخل، ثم نستأذن فى التجوال فى أرجاء
القصر الواسع، الذى ورثته الأسرةُ عن أجدادها الأثرياء. نتأمل التابلوهات الأصلية على الحوائط، والمنحوتات القيّمة فى زوايا القصر.. وغيرها من النفائس التى تتكلم عنها الأسرة بفخر، فهى تراث العائلة العريق، والمجد الباقى حتى وإن غدوا اليوم فقراء.
فى إحدى الغرف المهملة، نشاهدُ خزانة قديمة متهالكة يكسوها الغبارُ. نستأذنُ فى فتحها، فتفاجئُنا قطعةٌ ضخمة من الألماس النقى، حجمُها ألفا قيراط!.. ما هذا؟ كيف تعيشون هذه الحال البسيطة بينما تمتلكون هذه الثروة الهائلة؟! راح أفرادُ الأسرة ينظرون بعضهم إلى بعض بدهشة، وكأنهم فوجئوا مثلنا بهذا الكنز الخبىء فى بيتهم القديم منذ ألفى عام، ولا يدرون عنه شيئًا!!.
طالما تساءلتُ: لماذا وكيف نهملُ هذا الكنز العظيم وذاك التميز الهائل الذى تمتلكه مصرُ وحدها، من بين دول العالم بأسره، وهو حلول وفد السيدة العذراء وطفلها السيد المسيح، عليهما السلام، زوّارًا لأرض مصر، ومقيمين فيها، إذ قضوا بين ربوعها ما يقاربُ السنوات الأربع؟! أى أرض فى هذا الكوكب حازت هذا الامتياز التاريخى والدينى الفريد؟!.. وحدها مصرُ.
نعترفُ أن هناك جهودًا مبذولة من قِبل الدولة المصرية لإحياء رحلة العائلة المقدسة ووضعها على رأس المزارات السياحية العالمية. بدأت تلك الجهودُ المحترمة عام 1998 على يد وزير السياحة ووزير الإعلام ووزير الشباب
المثقف الراحل القاضى المستشار ممدوح البلتاجى. أعقبته جهودٌ خجولٌ من وزراء سياحة تالين. ثم انتعش الأمل ُمجددًا مع القيادة السياسية الحالية، إذ اهتم الرئيس السيسى بتكريس الوعى بالهوية المصرية وتاريخنا الخالد.
وبدت فى الأفق جهود سيادية لتطوير مسارات الرحلة، تزامنت مع جهود مخلصة من مثقفين ورجال أعمال وطنيين سخّروا وقتهم وأموالهم لهذا المشروع الوطنى مثل جمعية إحياء التراث الوطنى- نهرا، بقيادة
السيد منير غبور، والجهود الدؤوب التى يقوم بها منذ عقود الخبير السياحى، وعضو اللجنة الوزارية لإحياء مسار العائلة المقدسة السيد نادر جرجس، والتى كان آخرها ندوة مهمة عقدها روتارى مدينة
نصر تناولت محاور إحياء مسار العائلة المقدسة وتحدث فيها مسؤولون كبار ومثقفون عن جهود الدولة والجمعيات الأهلية فى هذا الشأن، وأن الأمل فى سطوع هذا الحلم فى دنيا الواقع قد بات وشيك التحقق.
نعم، نعلم أن هذا المشروع الوطنى، الذى سيحقق حلم الـ30 مليون سائح، يحتاج إلى المال والعمل من أجل تطوير المناطق المحيطة بالمزارات والمسارات التى مشت فيها ومكثت السيدة مريم ومن معها. ولكن شيئًا أهم فى تقديرى،
مازال غائبًا، يحول دون تحقيق الأمل. هذا الشىء الغائب هو: (الوعى العام به). حالُنا لا يختلفُ كثيرًا عن حال الأسرة التى رسمتُها فى صدر المقال حينما فوجئوا بخبيئة الألماسة الضخمة فى بيتهم، لا يدرون عنها شيئًا!!.
منذ عام 2000 تقريبًا وأنا أكتب مقالا سنويًّا فى أول يونيو من كل عام عن تلك الرحلة التاريخية الفريدة، وفى كل مقال أنادى بأن يكون (1 يونيو عيدًا قوميًّا) يحتفل فيه المصريون كافة بهذا الحدث الجلل، فهو فى
المقال الأول حدثٌ وطنى- تاريخي وليس حدثًا دينيًّا وحسب، لأنه ببساطة وقع قبل الرسالة المسيحية، إذ كان السيد المسيح، عليه السلام، نفسُه، وقت دخوله مصر على ذراع والدته البتول، طفلا رضيعًا لم يكد يكمل عامه الأول.
كيف لحدث بهذه الفرادة ألا يُدرّس فى المدارس ويتناوله الإعلام المصرى ليلَ نهار حتى يكون حديثَ الشارع المصرى، لكى يستقر فى ذاكرة الوعى العام؟!، كيف يغيبُ مثل هذا التميُّزُ المصرى عن خارطة السياحة العالمية، وهو كنز
حقيقى أوقن أنه سيدرُّ دخلا قوميًّا يكافئ دخل قناة السويس؟! وفق منظمة السياحة العالمية، فإن عدد السياح كل عام يتجاوز 4 مليارات سائح، منهم 27% يقصدون السياحة الدينية، فتصوروا حجم ما نكسبه كل عام إن تحقق حلم إحياء ذلك المسار؟!.
إنه الوعى بفرادة تاريخنا المصرى المميز، وفى قلبه فرادة تاريخنا الروحى مثل مزارات وفد السيدة العذراء، ومزارات آل البيت الشريف الذين زاروا مصر وقطنوا بها مثل: السيدة زينب،
والسيدة نفيسة، والسيدة سكينة، والإمام الحسين، والإمام على زين العابدين وغيرهم، رضوانُ الله عليهم أجمعين. الوعى الشعبى بما نمتلك من كنوز وفرائد هو السبيل الأوحد
لاستغلالها، وهو كذلك حجر الزاوية فى تكريس اعتزازنا بأصالتنا وهويتنا المصرية المميزة، تلك التى لا تشبه إلا نفسها، والتى من شأنها أن تنقلنا اقتصاديًّا إلى منطقة أخرى، فى مقدمة العالم.