تركت الكنيسة الأرثوذكسية أثرا لامعا على المسيحية فى بنيانها المؤسسى والروحى؛ إلا أن أثمن ما تركته يتمثل فى «الرهبنة»، تلك الهدية الروحية والإيمانية التى قدمتها مصر للعالم، وتُجسّد أعلى صور الزُهد والانقطاع عن العالم، والتأسى بالمسيح فى بساطته ومحبته وتوحده مع المخلوقات جميعا، ومع المعذبين والمتألمين.
تعود أقدم الإشارات للرهبنة إلى القرن الثانى الميلادى، فى عهد الامبراطور أنطونيوس بيوس «138 ـ 161»، إذ ثمة إشارة تاريخية لوجود نُسّاك فى وادى النطرون، حيث كان القديس فرنتونيوس ومعه 70
ناسكا يحلون بالمنطقة راغبين فى العزلة والتقشف، لكن النشأة الفعلية كانت فى القرن الثالث، لتصير الرهبنة القبطية تأسيسا لمسلك تعبّدى جديد، وشديد النُضج والتعمق، وهى الأم الأصيلة لكل
رهبانيات العالم. وأول القصة أنه فى سنة 250 للميلاد خرج القديس الأنبا بولا «234 ـ 341» قاصدا حياة الوحدة، وكان عمره نحو 16 سنة، وعاش فى وحدته الكاملة 94 سنة، وقبل رحيله تقابل مع القديس الأنبا
أنطونيوس سنة 341، ثم رحل وله من العمر نحو 110 سنوات، ويُعد أول السوّاح فى مصر عموما «تذكار نياحته بالسنكسار 2 أمشير». وعلى الموقع الرسمى للكنيسة الأرثوذكسية، يتحدث قداسة البابا تواضروس
الثانى عن مفهوم الرهبنة، فيقول: «الرهبنة القبطية عرفها العالم من الكنيسة المصرية، وظهرت منذ القرن الثالث الميلادى لتمتد إلى العالم كله، وفلسفة الرهبنة هى الموت عن العالم، لذا سُمّيت
رهبنة الكفن، وهى رغبة الإنسان باختياره ومحض إرادته للجوء إلى الدير، وبعد اختباره وإرشاده لسنوات يُقبَل فى شركة الدير، الذى يُصلّى عليه صلاةً جنائزية بعد أن يُغطّى بسترٍ يُعتبَر
بمثابة كفن، ويعيش بعد ذلك بالنذور الرهبانية التى تشمل الانعزال عن العالم، والفقر الاختيارى، وحياة الطاعة والتبتّل الطوعى، لكى تكون حياته نقية، والرهبنة الزاد الحقيقى لخدمة الكنيسة وعملها فى كل مكان».