احتفلت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، امس بتذكار نياحة القديس العظيم الأنبا أنطونيوس (أب الرهبان)، وبهذه المناسبة وجه نيافة الانبا مكاريوس اسقف المنيا، رسالة بعنوان شخصيات في حياة القديس أنطونيوس.
نحتفل اليوم بذكرى نياحة الأب أنطونيوس والذي له في قلوبنا من الحب والتقدير ما لا يمكن التعبير عنه كاملا، ويتردد صدى اسمه وسيرته في كل مكان وزمان، ويدين له كل راهب وراهبة في التاريخ المسيحي، سمات شخصيته، مبادئه، سيرته، أقواله جميعها يبعث علي الفخر ، ويهب الرجاء، ويجذب إلى الملكوت. وقد اخترت هذا العام أن أتحدث عن بعض الشخصيات والقيم في حياته.
1- والده : مع أن والده له الفضل عليه في تربيته تربية مسيحية، إلا أنه انتفع بموته أكثر مما انتفع بحياته فموته كان الشرارة الرهبانية التي اشتعلت داخله، ومن ثم فإن كل ميت يترك
رسالة هامة إلى الأحياء، ولكن لا يأخذ جميعهم الأمر مأخذ الجد، ولعل القديس أنطونيوس هو الذي رسم فلسفة الموت عن العالم وهي الركيزة الأساسية في الحياة الرهبانية، ذلك بأنه
قال له: ان كنت قد خرجت بغير إرادتك، فلأخرجن أنا بإرادتي”، ومن ثم يموت الراهب عن العالم بينما هو حي بالجسد، وهكذا رتب الآباء صلوات الرهبنة، وهي طقس مشابه للصلاة على الأموات.
ولعلنا نذكر هنا ما قاله القديس أرسانيوس عندما جاء إليه جسريانوس بوصية من رجل شريف يعرفه يرث بموجبها مالا طائلا، فأبى أن يتسلمها قائلا: انا قد مت من منذ زمان، وذاك مات أيضا، ومن ثم فالراهب لا يرث ولا يُورث.
2 – شقيقته : كان من الممكن أن تعوقه شقيقته عن إتمام قصده، ولكن ولأن لها الاشتياقات ذاتها، قد أمكن الاطمئنان عليها بوضعها في دير للعذارى، وهكذا ترهبت قبله.
ولا شك أنها كانت متجردة مثله، فلم تعبأ بالميراث وإنما تركت تدبير الأمر له، فاقتنى له ولها كنزا في السماء حيث لا يفسد السوس ولا ينقب السارقون ويسرقون.
3 – فتاة النهر : تلقى أنطونيوس في بداية رهبنته درسا من فتاة بسيطة، كانت الفتاة التي بكتته تعرف كما يعرف بالطبع غيرها، ان هناك رهبانا وإنما يحيون في البرية الجوانية، ومن ثم قالت له: اصمت يا إنسان، من أين لك أن تدعو نفسك راهبا ؟ لو كنت راهبا لسكنت البرية الداخلية، لأن هذا المكان لا يصلح لسكنى الرهبان، فاعتبر ذلك رسالة له من الله، ومن ثم دخل إلى البرية الجوانية.
علينا ألا نفحص القائل وإنما نفحص ما يقوله، ونعتبر الرسالة من الله رأسا، وصار هذا منهجا في البرية، فنقرأ عن الأب أرسانيوس أنه قال: هذه اللطمة على خدك ليس ذلك فحسب، بل أنه لما سمع من شماس بسيط إن أردت أن تكون كاملا، تأثر، بينما سمع الشاب الغني نفس الكلمات من المسيح ولم يتأثر، من المهم التركيز في القراءات الكنسية، فقد تصطادك آية، وقد تحل مشكلة، وقد تحول مسار حياتك كلها .
4- البابا أثناسيوس: لم يكن أنطونيوس منعزلا عن العالم بدون معرفة، ومن ثم فالعزلة عن العالم في جوهرها عزلة عن ملاذه وكراماته، وللعالم عدة مفاهيم منها : العالم المادي، وشهوات العالم، ولغة العالم، ولكن العالم يعني أيضا البشر : هكذا أحب الله العالم.
ومن ثم لم ينفصل الأنبا أنطونيوس عن الكنيسة، وعندما وجد لزاما عليه أن يعضد البابا في جهاده ضد الأريوسية لم يتأخر عن ذلك، لا سيما بما له من ثقل وثقة لدى المسيحيين، وكان البابا قد تتلمذ لبعض الوقت على القديس، وعبر عن ذلك بقوله: صببت الماء على يديه، هنا يمتزج النسك مع اللاهوت.
5- القديس بولا أول السواح : خلاص النفس هو الشغل الشاغل للراهب حتى النفس الأخير، فما أن سمع أنطونيوس بأنه يوجد على الجانب الآخر من البرية رجل لا يستحق العالم وطأة قدمه، حتى تناول عصاه وشد الرحال إليه، متكبدا في ذلك مشقة الطريق وعنف الحروب
الشيطانية والخيالات، وعند مقابلة بولا أظهر بساطة واتضاعا نادرين، ليصل الأمر إلى الدعابة والطفولة، وقد طلب بولا أن يُدفن في ثياب البابا أثناسيوس لأنها معبقة بالنسك واللاهوت، فقد أهداها المعلم اللاهوتي، لأب الرهبنة أنطونيوس وفاز بها بولا.
5- المال : حقا لقب الأنبا أنطونيوس بالغني الذكي مقابل الغني الغبي أحدهما حسبها بشكل صحيح، والآخر حسبها بشكل خاطئ الواحد باع أبديته بدنياه، والآخر ضحى بدنياه لأجل أبديته ،مات الغني ولم يأخذ معه شيئا، وتنبح
أنطونيوس وقد صدر ملايين المجاهدين الأبرار إلى السماء، وعوض الله أنطونيوس بملايين الأفدنة وملايين الأولاد والبنات الروحيين، وكما أورث المال للشاب الغني الحزن وحرمه من الملكوت، هكذا أفلت انطونيوس من فحه فورث الملكوت.
6- الشياطين: سلك القديس باتضاع شديد مع الشياطين، وكما سقطت الشياطين بسبب الكبرياء، فإنه لا يهزمها إلا الاتضاع، وهو ما أقرته الشياطين أمام القديس مكاريوس حين قالوا له إنك بالاتضاع تهزمنا،. هكذا هزمها القديس أنطونيوس وسخر منها ، فقد خبر بحيلها وصال وجال في حروبه معها فأفلت وانتصر، بينما خزيت هي وهربت.
7- حياة الوحدة كما رسمها أنطونيوس : خرج القديس من المغارة بعد عشرين سنة وهو بشوش، وذكرني ذلك بالراهبين اللذين خضعا لقانون واحد، الأول خرج متهللا والآخر مُعبسا، كل من يحيا في حضرة الله كموسى، يخرج ولا يستطاع التفرس في وجهه، وكان نظامه هو الوحدة، بينما الأنبا باخوميوس المجمع، والأنبا مكاريوس جمع بين الاثنين، ويمكن اعتبار البشاشة والراحة علامة التدبير والسلوك السليمين.
انتقل أنطونيوس من هذا العالم مثل كل الناس، ولكن ذكراه باقية، وتأثيره ممتد، واسمه اسم فخر، وديره يحمل نسمات وأنفاس أنطونيوس، وهو وإن مات، يتكلم بعد.