كان الجميع فى الكنيسة يبكى مَن صنع لنا الابتسامة بمهارة وشياكة وجمال ورُقى، الجميل النبيل عاطف بشاى، وجدت اثنين من الفنانين لم يُعرفا بأنهما من الكوميديانات، لكنهما حضرا حباً فى عاطف، هما المحمودان، الأول محمود
حميدة، والثانى محمود قابيل. كان معظم الحاضرين الذين ينتمون إلى الوسط الفنى فى طقوس الجنازة فى الكنيسة للصدفة مسلمين!! وهذا مدهش ويؤكد أن عاطف بشاى لم يكن فى يوم من الأيام صاحب فكر عنصرى أو طائفى، كان يكتب للجميع ومن
عصارة الوطن والشارع والحارة والكنيسة والمسجد، وكان من أوائل الكُتاب الذين أبرزوا الشخصية المسيحية فى الدراما على أنها شخصية طبيعية درامية، فيها صعود وهبوط درامى مثلها مثل الشخصية المسلمة، لأننا فى النهاية جميعاً مصريون.
عرفت الكاتب الكبير الراحل عاطف بشاى مُشاهداً لأعماله قبل أن أكون صديقاً له تأسرنى إنسانيته البالغة، وتواضعه الشديد، وحبه المفرط لزوجته وابنتيه، لدرجة أنه ظل يذاكر معهما حتى الثانوية
العامة!! ويشرف على كل صغيرة وكبيرة فى حياتهما، عرفت منه أنه كان خريج كلية فنون موظفاً فى وزارة الصحة!! ما العلاقة؟؟! إنها بداية الكوميديا السوداء التى أتقن كتابتها فيما بعد، ثم تخرّج فى معهد
السينما وحصل على المركز الأول، هذا الكاتب الكوميدى الذى تظنه بوهيمياً كان فى منتهى الجدية والصرامة عندما يتصدى للكتابة، وكان يستطيع استيعاب مختلف التيارات فى الكتابة ويحولها إلى سيناريو من
لحم ودم وأعصاب، نفس المهارة والإجادة فى حضرة المحترم لنجيب محفوظ موجودة فى ناس وناس والحب وسنينه لأحمد رجب!! قصة لا لمصطفى أمين شكّلها ونسجها ببراعة مثلما شكّل ونسج اللقاء الثانى لنهى حقى، أى
نص هو عجينة طيّعة يستطيع تحويلها إلى سيناريو وحوار بمنتهى الإبداع الفنى والاحتراف المهنى. يكتب تراجيديا عمارة يعقوبيان ومسلسل لا، كما يكتب كوميديا فوزية البورجوازية وعلى بابا، وبمنتهى
العمق والبساطة وليست الكلكعة أو السطحية. مفهومنا عن الكوميديا أنها هزار ظلمه قليلاً، فالكوميديا عنده هى فلسفة تعرى وتكشف، وعبقريته فى كشف التناقضات الخفية تحت السطح هى التى تجعلك تضحك حتى تغرق فى دموعك!!
فى مسلسلى يا رجال العالم اتحدوا والنساء قادمون، كتب بمنتهى المهارة فى مساحة التنوير الاجتماعى، وكشف عما يعترى الأسرة المصرية والطبقة المتوسطة من تناقضات من السهل أن تجعل الحياة قشرة مزيفة ومجرد رحلة عيش فاترة لا
تمتلك أى حيوية أو طاقة، عاطف بشاى له جانب فنى لا يعرفه الكثيرون عنه وهو عشقه للفن التشكيلى فاعلاً ومتذوقاً، ممارساً وناقداً، كان أحياناً يرسم بكلاسيكية، وأحياناً بسريالية تقترب من سريالية الكوميديا التى كان يعشق كتابتها.
أتمنى، وكلى أمل فى شركات الإنتاج الكبرى أن تتولى تنفيذ عمل مهم كتبه عاطف منذ سنوات ولم يخرج إلى النور وهو عن مى زيادة، قرأ لى منه مشاهد كثيرة، وهو بالفعل مسلسل ثرى بالتفاصيل ويحتاج فقط إلى إنتاج ضخم لأنه
يستعرض حقبة ثقافية مهمة فى تاريخ مصر، أما مقالاته الأخيرة فى روزاليوسف والمصرى اليوم التى لم يلحق أن يجمعها فى كتاب، فأرجو من هيئة الكتاب أن تتولى إصدار هذا الكتاب على المعرض القادم، وأن تكون هناك ندوات لتكريمه.
افتقدنا كاتباً مهماً وإنساناً نبيلاً.