تحدث كريم كمال الباحث في الشأن السياسي والمسيحي فى الذكرى الثانية عشرة لرحيل معلم الأجيال وقديس العصر قداسة البابا شنودة الثالث، والتى توافق يوم الأحد الموافق 17 من مارس وقال:
سوف أذكر بعض المواقف عن هذا الرجل العظيم الذي مازال يعيش في قلوب ملايين الأقباط والمصريين والعرب بمواقف خالدة كتبت بحروف من ذهب في تاريخ الكنيسة القبطية الأرثوذكسية وفي تاريخ
مصر والمنطقة العربية والحديث عن قداسته يحتاج إلى آلاف الكتب والمراجع؛ لأن الكثير ذكرهم التاريخ، ولكن القليل من كتبوا التاريخ والبابا شنودة شارك بقوة في كتابة تاريخ كنيسة ووطن.
وأكد أنه بجانب ذلك كان قائدا دينيا مؤثرا على المستوى المحلي والإقليمي والدولي بحضور طاغٍ وكاريزما لم يستطع أحد أن يصل إليها، وعلم وثقافة كبيرة، فقد كان عالما ومعلما يستطيع أن يصل بالعلم
والمعرفة إلى عقول وقلوب المستمع بكل سهولة والسر في ذلك؛ لانه كان ظاهره مثل باطنه فهو لا يتغير ولا يتلون ولا يجامل في الحق، حريص كل الحرص على الكنيسة وأبنائها، ولا يفرط في حقوقهم تحت أى ظرف وفي
نفس الوقت حريص على الوطن الذي كان يعشقه إلى أقصى الحدود، وكلنا نتذكر عبارته “مصر وطن يعيش فينا وليس وطن نعيش فيه”، كما نتذكر دفاع قداسته عن القضية الفلسطينية ودور قداسته المؤثر حتى أطلق عليه بابا العرب.
وتابع كمال فى تصريحات خاصة للبوابة نيوز: شاء القدر أن أكون شاهد عيان على العديد من المواقف التي تؤكد عظمة وسمو قداسة البابا شنوده الثالث فقد ساعدت نشأتي في الكاتدرائية المرقسية بالإسكندرية في التقارب من
قداسته، فقد كان قداسته يحضر إلى الإسكندرية الأسبوع الأول والثالث من كل شهر، وهي العادة التي حرص عليها إلى قرب الرحيل فقد كان يصل إلى الإسكندرية مساء يوم الجمعة، وكنت حريصا منذ أن كنت طفلا صغيرا بالمرحلة
الابتدائية منذ عام 1988 أن أنتظر وصول قداسته أنا والمئات غيري؛ حيث كنا نتابع مع المراقبين لقداسته منذ أن يتحرك من القاهرة ويدخل في الطريق إلى دير القديس الأنبا بيشوي، ثم يمر من بوابة الإسكندرية وقلوبنا معلقة لرؤية قداسته.
وأوضح أنه في كل مرة نكون جميعًا بنفس الحماس كأننا نراه لأول مرة حتى يصل ويسلم على جميع الموجودين مهما كان عددهم، ثم يستريح، ويعقد مساء الجمعة اجتماع مع أعضاء المجلس الملي السكندري، وبعض المقابلات، ثم في صباح السبت
يترأس بنفسه لجنة البر، وهي اللجنة التي أساسها حيث كان يرأسها كل يوم خميس في القاهرة والسبت الأول والثالث من الشهر في الإسكندرية، وهذه اللجنة من أجل مقابلة الحالات التي تحتاج إلى إعانة مادية كبيرة تعجز الكنائس التعامل معها.
وأشار كمال إلى أنه في لجنة البر أرصد للقارئ بعض ملاحظاتي كشاهد عيان على مدى أعوام طويلة تخطت العشرين عام؛ فقد كان يتعامل مع الحالات القادمة ليس من منطق المنحة أو المعونة ولكن من منطق الأبوة مبتسم دائما يعطي بلا
حدود، وذلك من خلال المواقف التي رأيتها حيث كانت تأتي حاله بنت أو شاب تحتاج الحالة إلى ثمن غرفة على سبيل المثال، وقد كان قداسته يعلم جيدا كل الأسعار فى ذلك التوقيت، فيعطي ثمن أفضل غرفة، وبعد ذلك يسأل الشاب أو الفتاة:
هل تريد شيئا آخر؟ والرد يكون بالشكر بالطبع، ولكن لأن البابا شنودة كان أبا حقيقيا، فكان يسأل الحالة: هل لك إخوة؟ وإذا كانت الإجابه نعم يعطي أموالا أخرى من أجل ملابسهم في الفرح وأموال للزينة وأموال أخرى للأب والأم من
أجل ملابسهم ومن أجل وجود مبلغ مالى في يديهم فى ليلة الفرح بجانب السؤال بدقة عن كل شي في المنزل واي شيء يلزم المحتاج يدفع بروح الابوة رغم عدم طلبهم وكان يقول للحالة اطلب اللي نفسك فيه، أنا أبوك يا ابني او أبوكِ يا بنتي.
وأكد أن البابا شنودة أيقونة حقيقيةً للراعي الصالح الذي فرح مع الفرحين وبكى مع الباكين أما حبه ورعايته للاطفال الصغار تحتاج إلى مجلدات حيث كان حريصا على الاستماع إليهم واللعب معهم وإذا طلب طفل من قداسته أى شيء يستجيب فورا، حقيقي لا أعرف كيف كان يجد الوقت وكيف كان يبذل كل هذا المجهود رغم المرض والسن والمسؤليات.
وتابع: أتذكر حينما قمت بإعداد فيلم تسجيلي عن قداسته تحت اسم (همسه حب) كان لي لقاءات متعدده مع قداسته عن قرب، وأتذكر كيف كان يراجع لي أبيات الشعر التي أكتبها وهو الشاعر الكبير وفي مداعبة من قداستة
قال لي: ” أنت بتكتب شعر عامية عشان تهرب من القافية “، فقلت لقداسته: أنا بحب شعر العامية أكثر، فقال لي: “ولكن يجب أن تتقن كل أنواع الشعر، وتحفظ الكثير منها”. وكان قداسته شاعرا دقيقا حافظا لمئات الأشعار.
ومن العجيب أننى تفاجأت بعد أكثر من شهر من هذا الحديث أجد قداسته يهديني مجموعة من كتب الشعر ويقول لي: اقرأ هذه الكتب جيدا، وتعلم منها أصول الشعر، فقلت فى نفسى: ما هذا الأب العظيم الذي يتذكر حديث عابر عن الشعر بيني وبين قداسته!”.
وقال كمال: أتذكر كيف هنأني بالفوز بعضوية المجلس الشعبي المحلي وحينما قلت لقداسته بعض الآباء ينصحونى بالبعد عن السياسية فقال لي بحسم: “إحنا بنفرح لمًا ولادنا يكونوا مشاركين في أي مجال وطني و أوعي تسمع لحد يقولك لك كده واستمر ”.
هذا هو البابا المشجع الذي لم يخذلني ولا مرة في طلب أو سؤال، وليس أنا فقط ولكن كل من كان يطلب فقد.كان أبا لكل فرد من الشعب وليس فقط بابا أو بطريرك، وهي صفة تمتع بها قداسته بجانب القلب الطيب والابتسامة التي لا تغادر وجه قداسته حتى فى أصعب المواقف.
وشدد على أن البابا شنودة كان سلسال حقيقى للآباء مار مرقس الرسول، مرورا بالبابا أثناسوس الرسولي والبابا كيرلس عمود الدين والقديس انطونيوس الكبير والقديس يوحنا ذهبي الفم بل كنا نراه في قداستة ومازلنا نرى صورة السيد المسيح التي قرأنا عنها ولكن شاء الله ان نراها علي ارض الواقع في شخص البابا شنودة.
وأضاف كمال: أتذكر أيضا في بعض المرات التي مكثت فيها في المقر البابوي في دير الأنبا بيشوي في وادي النطرون أنى شاهدت قداسته يخرج بعد منتصف الليل بجلباب قديم ويجلس على الأرض حتى
الفجر تحت أحد عواميد الإضاءة يكتب في أجندة ويقرأ في الإنجيل حتي مطلع الفجر، وكنت أشاهد قداسته عن بعد دون أن يراني، وأتعجب أن هذا الرجل الذي تخطى العقد الثامن من عمره يخرج
بنشاط في الصباح الباكر بعد أقل من ساعتين بنشاط وحيوية كانه نائم منذ ساعات طويلة ، لقد كان ناسكا وزاهدا إلى أقصى الحدود حتى في الطعام حيث كان يقيم الموائد للضيوف ولا يأكل إلا القليل.
وتابع من المواقف الشخصية مع قداسته والتي كانت السبب أن أدرك أنني أمام قديس عظيم موقف حدث معي وانا في المرحلة الثانوية حيث ذهبت يوم السبت قبل الامتحانات إلى لقاء قداسته مع طلاب الكلية
الاكليركية في الإسكندرية لآخذ بركة قداسته حيث اعتاد السلام علي كل الموجودين قبل اللقاء او بعد اللقاء حسب الوقت و اعتاد قداسته أن يسلم علي الجميع كل مره فقد قلت لنفسي اذا سلمت علي قداسة
البابا سوف انجح وادخل الي الكلية وبالفعل ذهبت ونزل قداسة البابا متأخر ولم يسلم علي احد فانتظرت إلى نهايه اللقاء وانا على يقين انه سوف يسلم مثل كل مرة ولكن في آخر اللقاء قال: لن أستطيع
السلام عليكم اليوم لأني متعب بعض الشي. وتحرك وكنت أقف عند باب الأسانسير الذي سوف يدخل فية قداسته والدموع بدأت تنهمر من عيني وانتابني خوف شديد ودخل بالفعل مسرعًا الي الأسانسير وخلفه الآباء
الأساقفة، ثم خرج مرة أخرى من الأسانسير ونظر لي وقال لي: أنت امتحانك بكره؟ فقلت: أيوه يا سيدنا، فقال لي: ربنا معاك وباركني، وصلى لي رغم أن في ذلك الوقت كان لا يعرفني شخصيا، ولا يعرف أنا في أي
عام دراسي، ولازلت إلى اليوم لا أعرف كيف حدث هذا الموقف الذي أكد لي أني أمام شخص أنعم الله عليه بقلب شفاف يرى به احتياجات من يأتى إليه وقد شاهدت العديد من المواقف المشابهة مع آخرين لا يتسع المجال لذكرها الآن.
واختتم: سوف يظل البابا شنودة الثالث علامة فارقة في تاريخ الكنيسة والوطن متربعا على قلوب الملايين؛ حيث رحل بالجسد، ولكن مازال وسوف يظل حيًا بمواقف خالدة وتعاليم مثمرة وأبوة حقيقية.