في قلب التاريخ المصري تُنسج خيوط الزمن وتتشابك الحكايات، و دائمًا نجد أنفسنا أمام معضلة تاريخية جميلة ومثيرة في نفس الوقت.. وتساؤلات تقول :هل وجوه الفيوم منسوبة إلى الفن الروماني أم هي تجسيد للفن القبطي؟
هذه الوجوه، التي تُعد إحدى أعظم أصول الفن في الفترة من القرن الأول إلى الثالث الميلادي، هي أكثر من مجرد أعمال فنية؛ فهي نافذة تُطل على عالم من التحولات الثقافية والدينية التي شهدتها مصر في تلك الحقبة.
وللإجابة عن أصل ” وجوه الفيوم ” تواصلت وطني مع الدكتور جرجس الجاولي ـ أستاذ النحت الميداني والفراغي ، ورئيس قسم النحت السابق بكلية الفنون الجميلة بجامعة المنيا – والذي حدثنا قائلاً : هذا الفن ظهر من القرن الأول حتى القرن الثالث الميلادي ، ومعظم الوجوه وجدت أكثرها في الفيوم وبعضها وجد في المنيا وبنى سويف وآخر في إخميم.
وكانت توضع هذه الوجوه التى تشبه في ملامحها المصريين المعاصرين في مكان الرأس في توابيت المتوفين بديلاً لشكلها النحتى الذى بدا يكون مرفوضًا في العقيدة المسيحية الجديدة في ذلك
الحين ، بل إن هذا التقليد مازال موجودًا لدينا كأقباط ، حيث يحرص أهل المتوفي على عمل صورة تذكارية للمتوفي توضع أمام الهيكل في الكنيسة يوم تذكار الأربعين ، ثم ياخذها ليحتفظ بها في
منزله وكل العائلات القبطية تحتفظ بصور في بيوتها تمامًا مثل الأيقونات والتى تعد استمرارًا لهذا التقليد وإن كانت مرتبطة بشخصيات دينية مهمة ، وفى نظرى أن هذا الفن قبطى صرف ، لأنه
من جهة يأتى فى الفترة المعروفة تاريخيًا بالحقبة القبطية وهى فى قوتها لاتقل شأنًا عن فن النحت فى العصور الفرعونية ولكن هذه المرة فى فن التصوير وليس ذلك بمستبعد على أهل مصر فى ذلك الزمان
حيث كانت مكتبة الإسكندرية منارة للعلم والثقافة والفلسفة في كل ربوع الإمبراطورية الرومانية الحاكمة فى ذلك العصر وهذا ليس مبررًا أن ننسب ذلك الوجوه التى تعتبر البداية الحقيقية لفن البورتريه ، ليس مبررًا أن يكون الحكام لمصر هم أيضًا أصحاب الفنون والحرف ، بل المنطقى أن الرومان جاءوا بلد الفن والفنانين لا ليبدعو بل ليحكموا.
فلو كانت تلك الوجوه رومانية لما كانت تشبه لحد كبير ملامح المصريين كما أنها كانت ستكون منتشرة فى باقي الولايات الرومانية العديدة فى شمال أفريقيا وشرق المتوسط وكل أوروبا وهذا لم يحدث بما يعنى أنه مقتصر على مصر ومرتبط
بعادات المصريين القدماء في الاحتفاظ بشكل المتوفى في تابوت منحوت من الخشب أو الحجر ولما كان الديانة المسيحية الجديدة في ذلك الوقت تحرم النحت ، فاستبدلوا ذلك بما يشبه الأيقونة فى نحت الوجه مع الاحتفاظ بالتابوت لحماية
الجثث من التلف بل وحتى تحنيطها أيضًا فالحنوط مازالت موجودة في الكنيسة القبطية لحفظ رفات القديسين ، وفي رأيي أنه لو ذهب البعض لنسبها للرومان لمجرد أنها ظهرت في فترة الحكم الروماني أو أن الملابس عند البعض لها طابع روماني .
لكان علينا أن نجعل من كل المصريين لابسى الطرابيش فى أوائل القرن الماضي على أنهم أتراك أو كل لابسى البدل على أنهم إنجليز ، المشكلة الحقيقية هي أن البعض يتثقل عليه أن ينسب وجوه الفيوم للفن القبطي.
رغم أن مفكري الأقباط الأوائل مثل أوريجانوس و إكليمندس السكندرى و أثناسيوس حامى الايمان وكيرلس عمود الدين و أنطونيوس مؤسس الرهبنة ، هؤلاء علموا العالم في القرون الأولى للمسيحية وكانت الإسكندرية عاصمة العلم والفن وأعلامها كلهم أقباط وليسوا رومانًا وهذه الوجوه لأقباط كانوا أكيد من أعيان المجتمع وربما يكونون من ذوى السلطة فى ذلك الزمان.