بعد أيام قليلة من ثورة الثلاثين من يونيو، وبينما كانت مصر تتطهر من حكم الإخوان، كانت الجماعة وأتباعها يعيثون فسادا فى مشارق الأرض ومغاربها، ولم يكن لدى مناصريها من
المتعصبين مانع من إشعال فتنة كبرى تأكل الأخضر واليابس، يومها هاجم أتباع التيارات المتشددة عددا كبيرا من الكنائس والأديرة وأشعلوا فيها نيران الحقد والغل، ظنا منهم أنهم
بذلك يعاقبون أقباط مصر الذين وقفوا بصدور عارية يدافعون عن مدنية الدولة، وعن حق الشعب فى تقرير مصيره، مثلهم مثل ملايين المصريين الذين خرجوا فى الشوارع يطالبون بإنهاء حكم المرشد.
يومها سجل البابا تواضروس الثاني، بابا الأقباط وبطريرك الكنيسة الأرثوذوكسية، موقفا تاريخيا، سيظل عالقا فى أذهان المصريين إلى أبد الدهر، وحين سئل عن حرق الكنائس وإشعال النار فى الأديرة قال مقولته الشهيرة: وطن
بلا كنائس خير من كنائس بلا وطن، وكانت تلك المقولة وحدها كافية لوأد فتنة كبرى، أراد لها الإخوان وأنصارهم والسائرون فى ركابهم، أن تقضى على وحدة النسيج الوطني، وهو ما أدركه البابا تواضروس بحكمته ونجح فى إفشال مخططهم.
دور البابا تواضروس الوطني، لم يتوقف على الشعارات البراقة أو مجرد الكلام، بل تخطى ذلك ليكون رأس حربة مع الدولة فى حربها ضد الإرهاب، وطالب كنائس المهجر أن تكون سفارات شعبية لمصر فى الخارج، تُعرِّف وتشرح لدول وشعوب الغرب حقيقة ما يحدث فى مصر وتكشف عن زيف الادعاء بأن 30 يونيو كانت انقلابًا وليست ثورة شعبية ضد حكم المتمسحين بالدين وأنهم أبعد ما يكون عن تعاليمه السمحة.
بحسه الوطني، تجاوز البابا تواضروس عن هدم وحرق الكنائس والتربص بالأقباط من قبل تيارات الإسلام السياسى المتشددة، وكان حاسما فى رفض تدخل أى جهات خارجية فى الأمر، رغم أن المقر البابوى استقبل وقتها عشرات الوفود الدولية التى عرضت المساعدة، مؤكدا أن ما قدمه أقباط مصر وما حدث من قتل وترويع وحرق للكنائس إنما هو ثمن بسيط لحرية الوطن قدمته الكنيسة عن طيب خاطر.
مبكرا جدا أدرك البابا تواضروس أن حكم الإخوان لمصر، يصعب استمراره، فى ظل الرفض الشعبى وممانعة غالبية الشعب تحول مصر الى دولة دينية يحكمها مرشد أو يتحكم فى قرارها مكتب إرشاد، وبدأت بوادر الرفض القبطى والكنسى لحكم الجماعة بانسحاب الكنائس المصرية من الجمعية التأسيسية لدستور 2012 الذى كان قائما على التمييز بين المصريين.
واستمر البابا تواضروس فى قيادة الكنيسة والأقباط ملتحمين مع باقى أطياف المجتمع فى رفض انسلاخ مصر عن هويتها، ومعارضة اختطاف الدولة وصبغها بصبغة دينية، ولم تفلح معه كل محاولات الترغيب ولا الترهيب، وحين فشلت كل محاولات
استمالة البابا لجأ الإخوان إلى استخدام ورقة العنف وحاولوا إشعال النيران لأول مرة فى التاريخ بالمقر البابوى فى الكاتدرائية المرقسية بالعباسية، ورغم ذلك لم يتزحزح البابا قيد أنملة واختار أن يكون فى جانب الوطن مهما كلفه الأمر.
وحين استتب الأمر ونجحت 30 يونيو فى تثبيت أرجلها، كان البابا تواضروس فى الموعد وشارك فى كل الأحداث والفاعليات ضمن خارطة طريق نجحت فى إنقاذ مصر من سنة قال عنها بطريرك الأقباط إنها كانت كبيسة وسوداء.
يحسب للبابا تواضروس انفتاحه على الجميع، ونجاحه فى بناء علاقات متميزة مع كافة التيارات السياسية، بالإضافة إلى علاقته الرائعة بشيخ الأزهر وقيادات المؤسسات الدينية فى مصر، وهو ما جعله محل احترام وتقدير وإعجاب من كل من تعاملوا معه أو اقتربوا منه.