على مسافة 115 كيلومترًا من القاهرة، وبالتحديد فى إقليم شمال الصعيد، تقع محافظة الفيوم، والتى تضم رقعة زراعية تصل لـ434.6 ألف فدان وتشتهر بزراعة الفاكهة والمحاصيل الزراعية التقليدية، إلا أنها مؤخرا باتت تعانى من أزمات متتابعة أدت إلى نقص مساحة الأراضى المزروعة، فضلًا عن انحسار اللون الأخضر، الذى اشتهرت به «مصر الصغرى»، قبل أن تتصحر مساحات كبيرة من أرضها متحولة إلى «اللون القاتم».
شهدت الفترة الماضية تغيرًا كبيرًا فى المناخ ألقى بظلاله على المحاصيل الزراعية فى عدد من محافظات الجمهورية المعروفة باشتغال قاطنيها بمهنة الزراعة، وهو ما أدى لارتفاع درجات الحرارة بشكل غير مسبوق، فأصيبت المحاصيل بالجفاف، منذرة ببوار المحصول بشكل كامل وعدم صلاحيته للتجارة الداخلية أو التصدير.
بدت الأزمة عصية على الحل، اللون الأخضر الذى كان سمة أساسية فى قرى الفيوم يتحول رويدًا رويدًا إلى لون قاتم منزوع الحياة، يبعث حالة من الحزن على وجوه الأهالى، اللون الرمادى وتشققات الأرض، واختفاء المحاصيل وتلونها بألوان باهتة تشى بإصابتها بآفات وأمراض عصية على العلاج، ومع ذلك يبحث الأهالى عن حلول مختلفة ومتنوعة للتحايل على الأمر حتى لو كانت التكلفة لا تغطى الخسائر التى يتعرضون لها.
«أنا عايز حد ينجدنى، المحصول كله بيضيع منى، درجات الحرارة المرتفعة وقلة المياه السبب الرئيسى وراء بوار الأرض، محصول اشتغلت عليه 5 شهور بيروح منى».. بهذه الكلمات بدأ المزارع أحمد حمدى، من محافظة الفيوم، شكواه لـ«المصرى اليوم».
يمتلك «حمدى» 8 فدادين أغلبها تمت زراعتها بـ«الملوخية»، وهو المحصول الذى تميزت به قريته «أبودنقاش»، حتى باتت القرية الأولى الأعلى تصديرًا له عالميًا.. يقول فى حديثه لـ«المصرى اليوم»: «نعانى منذ بداية
فصل الصيف من ارتفاع درجة الحرارة وقلة مياه الرى، كل تلك الأسباب أدت إلى جفاف المحصول وهو ما أدى إلى ضرب موسم الحصاد بشكل كامل، نحن نعمل على محصول الملوخية منذ شهر إبريل وينتهى فى شهر أكتوبر على أقصى
تقدير، لكننا خلال الفترة الأخيرة شهدنا قلة مياه تصل إلى الندرة، حيث نعتمد على ماكينات الرى التى تدفع المياه من المصارف إلى الأراضى الزراعية إلا أن جفاف تلك المصارف حول حياتنا إلى كابوس لا يمكن الاستيقاظ منه».
يتابع «حمدى»: «الأزمة الكبرى بالنسبة لنا عدم وجود عدالة فى توزيع المياه على المحاصيل، مثلًا محصول الأرز استحوذ على نصيب الأسد من المياه وتم زراعة كميات كبيرة من الأراضى بالأرز، وهو ما قلل من حصولنا على
كمية مياه الرى الكافية، بجانب ذلك ارتفاع درجات الحرارة يحتاج إلى زيادة كمية مياه الرى عن المعتاد، لكن ما حدث هو العكس فى ظل ارتفاع درجات الحرارة وغياب المياه بالشكل الكافى مما أدى إلى جفاف المحصول بشكل عام».
الأزمة ذاتها التى حدثت لــ«حمدى» تكررت مع الحاج عادل على، إذ تعرض محصوله من «الملوخية» إلى الجفاف لذات الأسباب وهى انخفاض نسبة المياه وكذلك ارتفاع درجات الحرارة، يقول «على»: «لدى 4 فدادين أغلبها مزروع بمحصول الملوخية وخلال الفترة الأخيرة أدت درجات الحرارة المرتفعة وقلة المياه إلى جفاف المحاصيل وتعرضنا نحن المزارعين إلى الخسارة بشكل كبير».
وأوضح «على» أن جفاف المحصول لا يؤثر فقط على المزارع، فهناك منظومة كاملة تتضرر بشكل كامل، فهناك عمال يساعدون أصحاب الأرض فى جمع المحصول وتشوينه ونقله من الأرض إلى المصانع لتغليفه وإعادة طرحه فى الأسواق، لافتا إلى أن هناك مصانع
تعمل فى تصدير المحاصيل الزراعية إلى الخارج وبالتبعية يعمل بتلك المصانع عدد ليس بالقليل من العمال والسيدات سواء فى التغليف أو فرز المحاصيل الزراعية، أى أن هناك منظومة كاملة لا يمكن تجاهلها، الخسارة لا تقع فقط على المزارع صاحب الأرض».
واختتم حديثه: «ارتفاع درجات الحرارة بشكل كبير يدفعنا إلى استخدام المزيد من المياه، فى الوقت الذى نعانى فيه من نقص فى المياه، هذا بالإضافة إلى ظهور الأمراض فى المحاصيل مما يجعلها غير صالحة للاستخدام الآدمى، فهى عملية تراتبية ومنظومة كاملة تكمل بعضها البعض».
انخفاض نصيب الفرد من المياه
انخفض نصيب الفرد فى مصر إلى ما يقرب من 625 مترًا مكعبًا سنويًا من المياه العذبة المتجددة بعد أن وصل تعداد السكان إلى 100 مليون نسمة فى سنة 2017 والمرشح للزيادة ليصل إلى حوالى 120 مليون نسمة بحلول عام 2025، ليبلغ نصيب الفرد 450 مترًا مكعبًا سنويًا، وهو انخفاض دون حد الشح المائى والذى يقدر حسب المؤشرات العالمية بحوالى ألف متر مكعب سنويًا.
وفى دراسة أجرتها الدكتورة سامية المرصفاوى، خبيرة التغيرات المناخية، المديرة السابقة للمعمل المركزى للمناخ الزراعى، كشفت أن التغيرات المناخية وما تسببه من ارتفاع فى درجة حرارة سطح الأرض ستؤثر سلبًا على إنتاجية العديد من المحاصيل الزراعية المصرية.
ومن أهم النتائج التى توصلت إليها الدراسة أن إنتاجية محصول القمح ستقل قرابة 9% إذا ارتفعت الحرارة درجتين مئويتين، وسيصل معدل النقص إلى 18% إذا ارتفعت ثلاث درجات ونصف الدرجة، كما سيزداد الاستهلاك المائى لهذا المحصول 2.5% مقارنة بالاستهلاك الحالى.
من جانبه، كشف حسين أبو صدام، نقيب الفلاحين، تأثير ارتفاع درجات الحرارة خاصة فى ظل الموجة الحارة التى تشهدها البلاد خلال هذه الأيام، على المحاصيل الزراعة الهامة، مؤكدًا أن ارتفاع درجات الحرارة عن المعدلات الطبيعية
يؤثر سلبيًا على كافة المحاصيل، حيث يؤدى إلى سقوط الأزهار والثمار أو تشوهها، وبالتالى ينتج عن ذلك قلة الإنتاجية من المحصول وخاصة الفاكهة والمحاصيل التى بها ثمار، والتى تزرع فى الأرض الزراعية المكشوفة المعرضة لأشعة الشمس.
وأوضح «أبو صدام» فى تصريح لـ«المصرى اليوم»، أن ارتفاع درجات الحرارة أدى إلى ضرر كبير على عدد من المحاصيل منها المشمش والمانجو والرمان، لافتًا إلى أن ذلك يؤدى إلى تقليل الإنتاجية وزيادة انتشار الحشرات للإصابة بالآفات والأمراض، وقد يؤدى ذلك فى بعض الأحيان إلى هلاك المحصول بسبب ارتفاع الحرارة عن الحد الطبيعى.
وأضاف أن الارتفاع الكبير فى درجات الحرارة قد يؤدى أحيانًا إلى ظاهرة التصحر وأيضًا زيادة تكلفة الزراعة، وبالتالى تكلفة أعلى لاستخراج المياه، مشيرًا إلى أن القطن من المحاصيل الهامة،
ولكن ارتفاع درجات الحرارة يؤثر على إنتاجية وجودة القطن، مما يؤدى إلى انخفاض الإنتاج وتراجع الصادرات، مضيفًا أن محصول الطماطم من أهم المحاصيل البستانية، ولكن ارتفاع درجات الحرارة يؤدى
إلى تقليل الإنتاجية وزيادة قابلية الثمار للتلف. ونصح أبو صدام بضرورة أن ينتبه المزارع إلى ضرورة العمل على التخفيف من آثار التغيرات المناخية على المحاصيل الزراعية، من خلال اتخاذ مجموعة
من التدابير، أهمها: تحسين كفاءة استخدام المياه فى الزراعة، وإعادة استخدام مياه الصرف الزراعى، وتطوير وتحسين أساليب الرى والتركيز على استخدام تقنيات الرى الحديثة والموفرة للمياه، ونشر
واستخدام أنظمة الرى بالتنقيط والرش لزيادة كفاءة استخدام المياه، وتطوير طرق جديدة للحصاد المائى وإعادة استخدام المياه المعالَجة فى الزراعة، وزراعة أصناف تتحمل درجات الحرارة المرتفعة،
والزراعة بعيدًا عن أشعة الشمس المباشرة، واستخدام تقاوى مناسبة وصالحة، كما يجب العمل من خلال قطاع الزراعة على توعية الفلاحين والمزارعين لاتخاذ الاجراءات اللازمة لمواجهة الحرارة العالية.
توصيات لمواجهة ذروة الحرارة الشديدة
وحذر دكتور محمد على فهيم، مستشار وزير الزراعة، رئيس مركز معلومات تغير المناخ، من ارتفاع درجات الحرارة وتأثيرها على المحاصيل قائلًا: «يجب التعامل بحذر مع ارتفاع درجات الحرارة بشكل كبير خلال الفترة الأخيرة سواء على البشر أو المحاصيل الزراعية».
وقدم «فهيم» ما وصفه بـ«أهم التوصيات للمحاصيل الزراعية» والتى تركزت على ثلاث توصيات لا يجب التغافل عنها بأى حال من الأحوال، يأتى على رأسها: «العناية الفائقة بتعويض النباتات بالمياه ولابد أولًا من
ضمان وجود رطوبة أرضية كافية للنبات.. يعنى إجراء رية مع قصر الفترة بين الريات وعلى أن يكون الرى فقط فى الصباح الباكر والابتعاد تمامًا عن الرى وقت الظهيرة (لأنه وقت الظهيرة تغلق الثغور ويتوقف البخر،
وبالتالى يقل الامتصاص جدًا، ما يعنى أن أى زيادة فى مستوى المياه حول الجذور سيؤدى إلى نقص الأكسجين الذى يكون النبات فى أمس حاجة له أثناء الحرارة العالية) والاستثناء الوحيد هو الرى بالطاقة الشمسية».
ويؤكد فى التوصية الثانية على ضرورة إجراء عمليات التحجيم فى أشجار الفاكهة خاصة المانجو والزيتون والنخيل والموالح وباقى المتساقطات بسبب موضوع زيادة تنفس الظلام وزيادة معدلات الهدم،
لافتًا إلى أن مركبات التحجيم تتكون من (مركبات البوتاسيوم + سيتوكينين منخفض التركيز بالتبادل مع مركبات الكالسيوم)، مشيرًا إلى أن المحاصيل الصيفية مثل (الذرة- القطن- السمسم- الصويا- الفول
السودانى- الأرز) تحتاج إلى تكثيف إضافة الفسفور (حامض فسفورى أو غيره). وأضاف «فهيم» عن كيفية التعامل مع ارتفاع درجات الحرارة وتأثيرها على المحاصيل الزراعية: «يجب العمل على مكافحة دودة
الحشد على الذرة والتى تعد أخطر آفة على الإطلاق على الذرة حاليًا، سواء باستخدام المبيدات المناسبة أو بالمعاملة الموضعية فى المناطق شديدة الإصابة المنعزلة يعنى بنظام تملأ بلعوم العود بالمبيدات».
وتابع: «وفى ظل ما يحدث الآن من تغيرات صعبة فى المناخ وزيادات كبيرة فى تكاليف إمدادات مستلزمات الإنتاج، بالإضافة إلى مبدأ انتهاز الفرص من بعض المحتكرين لسوق المستلزمات (كالعادة)
الرجاء العمل على ترشيد استخدام مستلزمات الإنتاج قدر الإمكان (الأسمدة، المخصبات، المبيدات وخلافه)، فقط لا تضف عناصر وأسمدة إلا بالكميات والتوقيتات السليمة.. مع مراعاة طبيعة الأرض
ونوع المحصول ومرحلة النمو وظروف الجو». وهو ما اتفق معه الدكتور على قطب، أستاذ المناخ بجامعة الزقازيق، موضحًا أن العوامل المناخية وارتفاع درجات الحرارة تؤثر على المحاصيل الزراعية
تأثيرًا مباشرًا وغير مباشر، ومن ضمن هذه العناصر ارتفاع أو انخفاض درجات الحرارة، وعدد فترات سطوع الشمس، أو سقوط الأمطار، وبالتالى عنصر الحرارة من العناصر الهامة المؤثرة على
المحاصيل الزراعية، مؤكدًا أن كل محصول زراعى مرتبط ببيئة مناخية ودرجة حرارة محددة، وإذا اختلفت هذه الحرارة فإنها تؤثر على إنتاجية المحصول وجودته؛ لذا نجد أن هناك محاصيل صيفية ومحاصيل شتوية.
وتابع قطب، فى حديثه لـ«المصرى اليوم»، أن هناك محاصيل صيفية تحتاج على سبيل المثال إلى درجة حرارة 30 درجة، وإذا بدرجات الحرارة تصل إلى 40 فما فوق لفترة زمنية تطول، وإن ذلك يؤدى إلى تدهور المحصول، مشيرا إلى أن لكل فترة زمنية من المحصول خلال زراعته درجات حرارة وبيئة حرارية محددة، فإن اختلفت بشكل ملحوظ فإنها تؤثر بالسلب على هذا المحصول.
وأكد الدكتور محمد داود، الخبير الدولى ومستشار الموارد المائية فى هيئة البيئة فى أبوظبى، أن ظاهرة التغيرات المناخية تساهم فى رفع حرارة الأرض، وهو ما يؤدى إلى اختلال فى
الطقس وظهور التقلبات المناخية السريعة والحادة، مما يتسبب فى زيادة الآفات وأمراض النبات والتأثير على إنتاج الغذاء، بجانب نقص الإنتاجية الزراعية لبعض المحاصيل. ولفت
داود إلى أن شحّ الموارد المائية الذى تعانى منه البلدان العربية سيكون له تأثير كبير على التنمية الاقتصادية للبلدان التى تعتمد على الزراعة مثل مصر، إذ سينخفض الإنتاج
الزراعى فى بعض البلدان بنسبة قد تصل إلى 60%، ويؤدى ذلك إلى انتشار البطالة فى القوى العاملة الزراعية التى قد تصل إلى 30% من إجمالى القوى العاملة فى بعض البلدان الزراعية فى المنطقة.