تحتفل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، يوميا بذكرى أحد قديسيها، وفي هذه الذكرى تقوم بعمل طقس يسمى بطقس تطييب الرفات الخاصة بهذا القديس.
ما الرفات؟
أعطت كنيسة القديس تكلا هيمانوت الحبشي، بحي الإبراهيمية في الإسكندرية، تعريفًا للرفات قالت خلاله إنها “ذخائر الأجساد الخاصة بالقديسين”، في إشارة إلى أن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية من خلال التقليد المقدس، تقوم
بتكريم القديسين وطلب شفاعتهم، وتعمل باسمهم اجتماعات روحية ونهضات، والناس يترنمون بسيرتهم الطاهرة في شكل مدائح للقديسين، خاصة في ذكراهم “وهي تعتبر أعياد”، وكذلك تحتفظ بأجزاء من أجسادهم الطاهرة أو/ ومتعلقاتهم.
هذه الأجساد غالبًا ما تكون موجودة بجانب خورس السيدات وخورس الرجال على اليمين واليسار بالكنيسة، حيث يمجد الله قديسيه كما مجدوه في حياتهم، فتظهر عجائب من أجسادهم، إننا لا نعبد القديسين بل نكرمهم لأنهم أولاد الله المجاهدين.
لماذا تكرم الكنيسة أجساد القديسين؟
للإجابة عن هذا السؤال، قال القمص أثناسيوس فهمي جورج، مدير مدرسة تيرانس للعلوم اللاهوتية في كتاب الاستشهاد في فكر الآباء، إنه لقد حُسِبَت أجساد الشُّهداء منذ العصر المسيحي الأول
“بدايات المسيحية” كذخائِر مُقدسة وروائِع ثمينة، تُوضع في أعظم الأماكِن وأقدسها تشبُّهًا بما جاء في سفر الرؤيا “رأيت تحت المذبح نِفوس الذين قُتِلُوا من أجل كلمة الله ومن أجل
الشهادة التي كانت عندهم”، ولعلنا نرى في تصميم القديس أمبروسيوس في وصيته على أن يُدفن جسده بجوار الشهيدين بروتاسيوس وجيرفاسيوس كدليل على مدى ارتباط إيمان أمبروسيوس بقيمة أجساد الشُّهداء وشفاعتهُم.
ويُشير قديس تورين “مكسيموس” إلى قيمة أجساد الشُّهداء وبركاتهُم بقوله: “إنَّ أسلافنا أوصونا أن نلصق أجسادنا بعِظَام الشُّهداء حتى حينما يُشرِق المسيح على الشُّهداء يرفع عنَّا ضِمنًا ما فينا من
ظلام”، ويقُص علينا المُؤرِخ يوسابيوس القيصري أنَّ المُؤرِخ هيجيسبوس رأى بنفسه جسد القديس يعقوب البار أخي الرب موضوعًا تحت المذبح في وضع بارِز، ويقول أيضًا المُؤرِخ يوسابيوس أنَّ مِلكِيِة أي كنيسة لجسد
شهيد أصبح غِنَى وشُهرة فائِقين، بالإضافة إلى صحة الإيمان والعقيدة، لذلك صارت الكنائِس تتسابق على قِنيِة هذه الأجساد الغالية، حتى إنَّ بعض الكنائِس سامت أساقفة مسئولين عن أجساد القديسين التي تحتفِظ ببركِتها.
وبالرغم من إلحاح الشُهداء أنفُسهُم برفض أي تكريم لأجسادهُم، إلاَّ أنَّ الكنيسة وفاءً منها لشُهدائها، الذين قدَّموا أجسادهُم مذبوحة ودِماءهُم مبذولة، رأت من الضروري بل ومن الواجِب أن تُكرِّم أجسادهُم،
فبعض الشُهداء لم يُمانِعوا أن يحتفظ بأجسادهُم للتذكار، كما جاء على لسان الشهيدة بربتوا، ونلحظ في أقوال القديس إغريغوريوس النزينزي إيضاحًا لخبرتنا الكنسية التي تتعلَّق بشغفنا على تكريم رُفات القديسين،
فنجده يقول في عِظته عن القديس كبريانوس الشهيد: “إنَّ تُراب كبريانوس، بالإيمان، يستطيع أن يعمل كل شيء، والذين لجأوا إلى ذلك يعلمون صحة ما أقول”، لقد قدَّم لنا خِبرة عاشها جيله ولمسها هو بنفسه لذلك عمل وعلَّم بها.
لذلك مهما كانت الكنيسة صغيرة وفقيرة، لكنها تضُم رُفات شهيد، تصير موضِع جذب لكثيرين، لأنَّ الشُهداء يعملون صيادين للناس بعد شهادتهُم، إذ يصطادون ربوات من الناس إلى مواضِع أجسادهُم ومقصورات رُفاتهُم الكريمة.
ومنذ العصور الأولى أقامت الكنيسة هياكِل صغيرة تحوي أجساد شُهدائها، وكانت هذه الهياكِل أو الكنائِس تُسمَّى باسم “مارتيريم” أي “مكان شهادة”، وكلمة “شهادة (مارتيريم)” ترجمة حرفيَّة من اليونانية ύ أي “كنيسة صغيرة لذِكرى شهيد”.
ولقد مرَّت الكنيسة بزمن كانت لا ترى فيه أي مذبح جدير بالتكريس إلاَّ الذي يحوي جزءًا من جسد شهيد، وكان الكاهِن الذي يُعيَّن على مذبح شهيد يُعتبر أعلى رُتبة من أي كاهِن آخر وكان يُسمَّى “مارتيراريوس” أي خادِم شهادة.
لذلك يعتبِر القديس إغريغوريوس النيصي أنَّ عقيدتنا في تكريم أجساد الشُّهداء سببها أنَّ هذه الرُفات مصدر تهذيب للكنيسة، تطرُد الأرواح النجِسة وتأتي لنا بالملائِكة، فنطلُب بها ما هو لخيرنا، ونأخذ شِفاء لأسقامنا ولكل أوجاعنا، فهذه الأجساد ملجأ أمين للشفاعة عند الذين في شدة وكنز خيرات للفُقراء والمُعوذين.