في قلب حي النزهة بمصر الجديدة، تقف كنيسة القديسين جوارجيوس والأنبا أنطونيوس شامخة، وهي تحتفل هذه الأيام بيوبيلها الذهبي، مرور خمسين عامًا على تأسيسها. هذه الكنيسة، التي أصبحت علامة فارقة في حياة المجتمع القبطي، ليست مجرد بناء من الحجر، بل هي حكاية متواصلة من الروحانية والخدمة التي تجسدت عبر الأجيال.
لقد وصلت إلى الكنيسة مع الساعات الأولى من صباح اليوم خطوات بسيطة ودخلت في أحضان مكان يعبق بالتاريخ والإيمان. وأنت تعبر بوابات الكنيسة، تشعر بأنك قد دخلت إلى عالم مختلف، عالم حيث يمتزج فيه عبق الماضي بروحانية الحاضر. هذه الكنيسة شهدت عبر تاريخها زيارات وفعاليات تركت بصمة لا تمحى في قلوب من عاشوها.
ولعل أبرز محطات تاريخ الكنيسة كانت زيارتي البابا شنودة الثالث في عامي 1991 و1994. في الأولى، جاء قداسته ليبارك الكنيسة ويشجع خدامها وشعبها على المثابرة في خدمتهم، وفي الثانية عاد ليؤكد اهتمامه الدائم بالكنائس وأبنائها. هذه الزيارات لم تكن مجرد زيارات رعوية، بل كانت رسائل حب وقرب من الشعب، ورسمت في الذاكرة القبطية مكانة خاصة لهذه الكنيسة.
واليوم، وبعد مرور خمسين عامًا على تأسيسها، يأتي البابا تواضروس الثاني ليحتفل مع أبناء الكنيسة بهذا الحدث المهم. زيارة قداسته للكنيسة ليست فقط لحظة احتفالية، بل هي تأكيد على التواصل المستمر بين البابا
الراعي وأبناءه، ورمز للدور الأبوي الذي يمارسه بابا المحبة في رعاية الكنائس والاهتمام بخدماتها. كان لاستقبال البابا تواضروس اليوم وقع خاص في قلوب المؤمنين، إذ جاء ليشاركهم فرحتهم بخدمتهم ورسالتهم عبر السنين.
هذه الكنيسة ليست مجرد بناء معماري، بل هي مركز نابض بالحياة الروحية والخدمية. من القداسات اليومية إلى الأنشطة التعليمية والثقافية، تلعب الكنيسة دورًا حيويًا في حياة شعبها. أصبحت الكنيسة ليس فقط مكانًا للصلاة، بل أيضًا مساحة يلتقي فيها الأفراد من جميع الأعمار، سواء كانوا يبحثون عن تعاليم روحية أو أنشطة اجتماعية وثقافية.
وعلى مدى العقود الخمسة الماضية، شهدت الكنيسة نموًا مستمرًا في خدماتها. فقدمت دروسًا للأطفال والشباب، ونظمت فعاليات خدمية لمساعدة المحتاجين، وحافظت على دورها في المجتمع من خلال احتضان الأنشطة التي تجمع بين الروحي والاجتماعي. هذا التوازن بين الخدمة الروحية والمجتمعية هو ما جعل الكنيسة رمزًا للتفاني والإيمان في هذه المنطقة.
إن الاحتفال باليوبيل الذهبي ليس مجرد حدث، بل هو لحظة تأمل في تاريخ طويل من الإنجازات. ما يجعل هذه الكنيسة مميزة هو قدرتها على أن تكون جسرًا بين الماضي والحاضر، بين التراث القبطي الأصيل واحتياجات الأجيال الجديدة. حضور البابا تواضروس للاحتفال اليوم هو تأكيد على هذا التوازن؛ إذ يعكس حرص الكنيسة على مستقبل مشرق، بينما يحافظ على عراقتها التي نشأت عليها.
وبينما كنت أتجول في أرجاء الكنيسة، لا يسعني إلا أن أشعر بالامتنان العميق لروح الخدمة التي تميزها. لقد استطاعت الكنيسة على مدار نصف قرن أن تظل وفية لرسالتها، وأن تبني مجتمعًا يتسم بالحب والتعاون. في كل ركن من أركانها، تجد بصمات الإيمان والعمل الدؤوب، ومن خلال جدرانها، يمكنك أن تشعر بتاريخ عريق ينبض بالحياة.
كنيسة القديسين جوارجيوس والأنبا أنطونيوس بمصر الجديدة ليست فقط مكانًا للصلاة والعبادة، بل هي أيضًا قصة تستمر في النمو والخدمة. وهي نموذج حقيقي للكنيسة القبطية الأرثوذكسية التي تجمع بين الروحانية العميقة والخدمة المجتمعية الفعالة. وما هذه الاحتفالات إلا تأكيد على الدور الكبير الذي تلعبه الكنيسة في حياة شعبها، وعلى استمرارية هذا الدور لعقود قادمة، من جيل إلي جيل.