تحمل التاريخ فى ذاكرتها، بعد أن «غرقت فيه لشوشتها» وفق تعبيرها، وأخذت على عاتقها أن تحكيه للمصريين كافة، خاصة الأجيال الجديدة، لزيادة ارتباطهم بأرضهم ووطنهم، الذى علّم الدنيا بأسرها كيف تُقام الحضارة وتزدهر.
إنها الدكتورة لميس جابر، التى تحكى التاريخ على طريقتها الخاصة، وتختار شخصيات بعينها لتروى قصصها الفريدة المعبرة عن أصالة هذا الوطن، سواء فى أعمالها الفنية ذات القيمة العالية، أو كتبها العديدة التى تزخر بها المكتبة العربية، وآخرها ثلاثية «حدوتة ع الماشى»، الصادرة عن مؤسسة «أطياف»، وصولًا إلى برنامجها التليفزيونى الأحدث «حواديت لميس».
عن حبها للتاريخ، وثلاثية «حدوتة على الماشى»، وبرنامج «حواديت لميس»، وهدفها الأعم المتمثل فى توثيق الهوية المصرية على طريقتها الخاصة، إلى جانب قصة الحب التى جمعتها بالفنان الكبير يحيى الفخرانى، وصار يضرب بها المثل، يدور حوار «حرف» التالى مع الدكتورة لميس جابر.
■ بدأتِ حياتك العملية كطبيبة.. ماذا حدث لتتحولى إلى التاريخ؟
– أهوى القراءة فى كل التخصصات، لكن التاريخ أستطيع أن أقول إننى بدأت قراءته أوائل التسعينيات، وبدأت بالتاريخ القديم، وكما يقولون «غرقت فيه لشوشتى»، وواصلت القراءة فيه لمدة طويلة، حتى أصدر الحاج «مدبولى»، الناشر المعروف، موسوعة تاريخية من 13 كتابًا، اشتريتها جميعًا، لأنتقل إلى قراءة التاريخ الحديث.
■ حسب موقع «السينما دوت كوم» أول أعمالك كان «نونة الشعنونة» عام 1994 وتقدمين حاليًا «حواديت لميس».. كيف مررتِ بهذه التجربة الإبداعية المستمرة طيلة 32 عامًا؟
– «نونة الشعنونة» لم يكن أول عمل أكتبه، أول عمل كان «الملك فاروق»، الذى بدأت فى كتابته بالضبط أواخر الثمانينيات، وانتهيت من نصفه تقريبًا، من أول ولادة فاروق إلى 4 فبراير 1922، أى 20 عامًا من عمر فاروق، حتى انتهيت منه عام 1998 تقريبًا، قبل أن أضعه «على جنب»، و«أقعد كل فترة أركنه وأرجعله تانى»، وبالتزامن كتبت «مبروك وبلبل»، ومثله مثل فاروق «اتركن»، فكتبت «نونة الشعنونة».
■ ما ظروف كتابة «نونة الشعنونة»؟
– لها قصة لطيفة، سلوى بكر كانت قد كتبت مجموعة قصص قصيرة ظريفة جدًا، وكانت ناهد فريد شوقى، الله يرحمها، تنتج أعمالًا كثيرة، وعجبتها هذه المجموعة جدًا، وأرسلت لى الجزء الخاص بـ«نونة الشعنونة»، على قصة تانية عن ست بيت مُهملة.
«اتعلقت جدًا» بـ«نونة الشعنونة»، لأن كانت لدىّ حساسية شديدة جدًا تجاه الأطفال القادمين من الريف للعمل فى البيوت، وأخذت عنها جائزة أحسن سيناريو من مهرجان التليفزيون.
وأثناء ذلك، كما ذكرت سابقًا، أروح وأجىء على «الملك فاروق»، وبعدما فقدت الأمل فيه كتبت «مبروك وبلبل»، إلى أن جاءت قناة «MBC» عام 2006، وطلبت منى «فاروق» لتنفيذه، واضطريت إلى أن أنجزه سريعًا، وأُذيع عام 2007.
■ كيف جاءت فكرة «حواديت لميس»؟
– تحدث معى الأستاذ تامر مرسى، وقال لى: «إحنا فى (سينرجى) عايزينك تصنعيلنا برنامج تاريخى»، وبدأنا بالفعل فى تنفيذ الفكرة، وأتذكر أن حوالى الـ30 أو الـ40 حلقة الأولى كانت تابعة لشركة «سينرجى»، وبعد ذلك أصبح البرنامج فى قناة «الحياة»، قررت وقتها أن أحكى التاريخ بالتسلسل، من بداية دخول عمرو بن العاص مصر إلى وصول محمد على باشا، أى منذ عام 460 إلى 1820 ميلادية.
لكن فى وسط الحلقات، كنا نحكى حواديت صغيرة عن شخصيات، وعن معانى الكلمات، والأحداث الصغيرة، كان البرنامج عبارة عن 4 حواديت فى الحلقة الواحدة، فأصبحت لدينا حصيلة من الحواديت على الماشى كثيرة جدًا.
■ تناولتِ فى ثلاثية «حدوتة ع الماشى» عدة شخصيات مصرية بين الأدب والفن والتاريخ.. على أى أساس تختارين حكاياتك؟
– الشخصيات المصرية التى تناولتها، سواء فى الأدب أو الفن أو التاريخ، أكيد فى الأصل أنا متأثرة بها، هذا بالتأكيد الذى يجعلها تخطر على بالى، إنما دافعى دائمًا فى هذا الموضوع هو وطنى فى المقام الأول، مثل قصة
الطفل نبيل منصور، ذى الـ11 عامًا، الذى فجّر معسكر إنجليزى، أنا أتذكره من وقت أن درسته فى المرحلة الابتدائية، وقتها كنا عام 1965، حيث عشنا فترة كانت الوطنية فيها عالية جدًا، والأغانى والكتابة والرسومات وكل شىء.
■ تأصلين للأمثال الشعبية والمقولات المصرية الأصلية.. هل ترين أن التراث يندثر ولا بد من المحافظة عليه، أم هذا لمجرد التدوين فقط؟
– فى البرنامج والكتب، بعد أن قطعت شوطًا لا بأس به فى الحكايات، قررت أن أستعين بالأمثال الشعبية والمقولات المصرية الأصلية، التى تعبر عن تراثنا الغنى، ولا أفعل هذا لأن التراث سيندثر، فالتراث لا يمكن أن يندثر اطلاقًا، هو فقط يحتاج إلى تدوين.
أعرف أن هناك أشخاصًا تابعين لوزارة الثقافة، كانت وظيفتهم النزول فى الصعيد وبين الفلاحين، لجمع ما يقال عليه «التراث الشفهى» أو «التاريخ الشفهى»، وهذا مهم جدًا، إنما أنا لا أقوم بالتدوين، «يا ريت أساهم فى التدوين»، لكنى استعنت بالأمثال من كتاب «الأمثال» لأحمد باشا تيمور، الذى جمع فيه كل الأمثال المصرية، وما يقابلها من الأمثال العربية.
■ «الشباب لا يقرأ هذه الأيام».. هل مرينا بنفس الحالة فى التاريخ القديم؟
– فى العصر القديم، ما بين الأسرتين الرابعة والخامسة تقريبًا إلى الأسرة الـ12، حدث انحدار فى الحضارة المصرية القديمة، لن تجد شيئًا تمت كتابته نهائيًا فى هذه الفترة، وعلى العكس، فى الدولة الوسطى من مصر القديمة، نستطيع أن نقول إنه كانت هناك «صحوة ثقافية»، التى جاء منها حكايات «الفلاح الفصيح»، وذلك من الأسرة الـ12 حتى الأسرة الـ17 تقريبًا.
لم تكن الدنيا عظيمة وقتها، لكن كانت مستقرة إلى حد ما، لم تكن هناك حروب، لم تكن هناك مجاعات، فالثقافة مثل التعليم تتأصل وتزدهر حين تكون الدنيا مستقرة، أو حين تكون هناك «صحوة سياسية»، مثلما مر بنا بعد ثورة يونيو، وما بعد حكم «الإخوان».
فى تلك الفترات تكون هناك صحوة، وتجد الناس تحاول أن تقرأ، مثلًا أيام «الإخوان»، أتذكر أن أحدهم قال لى: «أنا كنت فاكر إخوانى الأمس غير إخوانى اليوم»، فقلت له: «وماذا تعرف عن إخوان الأمس؟»، فقال: «لا معرفش.. مقرتش»، ومن هنا بدأت الناس تقرأ.
■ تتبنين دائمًا فكرة الهوية المصرية.. ماذا تمثل لكِ؟ وكيف ترين المجتمع الذى لا يرى هويته ويعتز بها؟
– هوية المصريين هى المصريين، هى التى تجعل أى منا يقول: «أنا مصرى وأفتخر»، ولا يوجد بلد أو شعب يغنى لبلده غير مصر، هذه هى هويتنا، حين تكون لديك حضارة 7 آلاف سنة، لا بد أن تكون جذور هويتك بهذا الشكل.
لو قرأت عن رمضان فى عام 1770م، ستجد أنه فى حوارى القاهرة كان هناك من يضع الإفطار أمام البيوت، ويجلس ليأكل على الأرض، وينتظر أى مار متأخر على إفطاره، لأخذه وتقديم الإفطار إليه، وهو المشهد المتكرر حتى أيامنا الراهنة.
فى أى حارة أو قرية ريفية أو صعيدية، ستجد هذه العادة ما زالت موجودة، أى شخص غريب متأخر عن الإفطار يدخل أى بيت ليأكل، فى المقابل، ممكن «لو دخلت بيت متعرفوش فى أمريكا، وتخبط على الباب وتقولهم عاوز رغيف مثلًا، يجيب لك البوليس».
هذه هى الهوية، شكل خاص لشعب خاص لا يتغير ولا يتبدل، ممكن تهتز فى فترة من الفترات، اتهزمنا وافتقرنا و«اتنيلنا»، وجاءت «هوية الدينار»، و«هوية الريال» و«هوية الدولار»، لكن هويتك المصرية تغلبت على كل هذا، وظلت هى الموجودة، هوية هى الأقوى، هوية «تهضم الكل»، و«عند الجد تقلب وتشيل كل ده قدامها»، الهوية أخلاق وطباع وتقاليد تكونت على مدى آلاف السنوات، وكلها لا تزال موجودة إلى الآن.
إذا وجد شخص لقمة عيش على الأرض الآن لا يمكن أن يتركها ويمشى من دون أن يقبلها ويضعها جانب الحائط، وهذا الكلام موجود من آلاف السنين، فتقديس الخبز وكلمة «العيش» و«أكل العيش» منذ أيام الفراعنة، ومستمر إلى يومنا هذا هذه هى الهوية، الشكل المحدد المختلف المستمر والمتواصل إلى يومنا الحالى.
■ تحدثِ فى ثلاثيتكِ عن فنانين مثل سمير صبرى ومحمود يس والضيف أحمد.. أين يحيى الفخرانى فى كتاباتك؟
– «مينفعش أُقيّم يحيى الفخرانى»، شهادتى فيه مجروحة، لا بد لمن يقيمه أن يكون بعيدًا عنه.
■ لكن ماذا عن يحيى الفخرانى الزوج والصديق؟
– «يحيى» دائمًا ما يقول: «شيئان يجب أن يكونا بالمجان، هما الزواج والفن، حتى يمكنهما الاستمرار». تعرفت عليه فى السنة الثانية من الجامعة، وتزوجنا ونحن فى «الامتياز». ظللنا صديقين لفترة قبل الحب والزواج، وتزوجنا ولم تكن لدينا شقة، كنا فى منزل والدته لمدة 12 عامًا، ثم أصبحت لدينا شقة قبل ولادة «شادى» بشهرين.
أما الآن، بعد كل هذه السنوات الطويلة، يأخذ الحب بيننا أشكالًا أخرى، «يحيى» قال لى مرة: «قلبى مش هيفضل يضرب كل ما يشوفك يا حبيبتى، وإلا كان زمانى جالى هبوط فى القلب».
لكننا دائمًا ما نجلس سويًا، ولو موجودة فى المكتب، وهو يجلس فى الأعلى، يقول لى: «أنتى قاعدة تحت ليه؟»، أقوله: «هقرأ كلمتين»، يرد علىّ ويقولى: «هاتى الكتاب وتعالى اقعدى فى الدفا».
الحب الآن بينى وبين «يحيى» بقى حالة من القرب والدفا والونس.