الرئيسيةاخبار عاجلةالبابا كيرلس! بقلم عاطف معتمد

البابا كيرلس! بقلم عاطف معتمد

بقلم عاطف معتمد

مترجلا، أمضيت نهار يوم كامل بمصر عتيقة، وعفرت أقدامى بتراب أطلال تاريخية وجغرافية بين الفسطاط، والمصطبة السفلى لهضبة المقطم، التى تشغلها منطقة سكنية غير مخططة اسمها عزبة خير الله.

واستطاع الطريق الدائرى بقوة شق هذه المنطقة وتقسيم أوصالها لشطرين: جنوبى وشمالى. ومن شطرها الشمالى بدأت جولتى، وتوغلت بمنطقة الزهراء عابرا خط المترو من ناحية كورنيش النيل.

تسكعت بين أزقة وشوارع الحى حتى ساقتنى قدماى إلى دير الملاك ميخائيل، المعروف باسم دير الملاك القبلى لوقوعه جنوب القاهرة القديمة. ويمتد تاريخه لقرون، ويربطها البعض بإلهام القديس الشهير حارس الصحراء الليبية مار مينا.

كنت محظوظا ببركة القديس، فمنذ ترجمتى للمعلومات الأثرية والتاريخية عن سيرته الدينية فى كتابنا ثلاث سنوات فى صحراء أولاد على، أصبح مار مينا رفيقا فى كثير من رحلاتى، فى شمال الصحراء الغربية، أو فى القاهرة العتيقة. وإذا

تخيلنا القاهرة قبل ألف سنة ونيف، لوجدناها صحراء عند أقدام المقطم، ومار مينا أنسب قديس للصحراء، وهنا يعبر النيل من الصحراء الغربية حيث تقع مدينته الشهيرة فى مريوط قرب برج العرب ليصل بنا إلى بدايات الصحراء الشرقية فى المقطم.

جلست على عتبة مخازن شركة المحاريث والهندسة التى تطل على شارع عريض يواجه الكنيسة التى وضعت سهما كبيرا يشير إلى قلاية البابا كيرلس. والقلاية تعبير قبطى شهير من أصل كلمة كيليا أى خلية أو صومعة مغلقة على الراهب للتوحد والترهبن. اخترت مكانا ظليلا على رصيف الطريق، لأدون بعض الأفكار عن المكان الذى أجدد زيارته، رغم أننى فى الحقيقة ابن مصر عتيقة وكانت المنطقة ملعب صباى.

بينما كنت أخطط اسكتشات بدائية جاء أحدهم وجلس بجوارى، ثم جاءت فتاتان من بنات البلد وخاضتا بحديث جاد عن الطلاق والزواج وصراعات الأسرة، قبل أن تنضم إليهما امرأة متوسطة العمر. لم أعرف سبب تجمع هؤلاء الناس حولى حتى جاءت سيارة سوزوكى تمناية فهبوا لركوبها. تتبعتهم وهم ينحشرون فى المقاعد، وسألنى سائقها: هاتركب.. ولا إيه النظام؟

سألته: انت رايح فين؟

فأجابنى: الطاحونة!

أعرف اسم الطاحونة من خرائط جوجل، فلم أتردد فى حشر نفسى وسط ركاب سيارته التى صعدت بنا الهضبة السفلية. فى الطريق نزل الجميع وبقيت غارقا فى تصفح المكان على الخرائط الرقمية حتى نبهنى صوت سائقنا مرة أخرى بلهجة زاجرة: يالا.. الآخر!

الطاحونة بناء أسطوانى على سطح الهضبة السفلى للمقطم، وكان منها 50 واحدة فى عهد محمد على باشا. ووردت تفسيرات عدة لوجودها، فبعضهم يقولون إنها كانت طواحين للهواء، ومن يرى أنها مخازن غلال لجفاف سطح الهضبة.

محمد على باشا حاضر هنا بقوة، فالطريق الدائرى حين شق عزبة خير الله شطرين، أظهر وادى عنتر أو (اسطبل عنتر) ضمن موقع أثرى يعرف بـالجبخانة، أصبحت بعد الطريق الدائرى حدا فاصلا لشطرى العزبة.

الجبخانة كلمة تركية تعنى مستودع الذخائر والسلاح والبارود. تجولت هناك قبل شهر وراعنى تغير ملامحها بشكل مشوه فقدت معه شخصيتها التى رأيتها عليها قبل 40 سنة حين كانت بناء مهيبا غامضا ملغزا فوق الجبل.

فتشت عن الطاحونة، فقابلنى بناء ضخم عليه أبراج كنيسة. طاحونة البابا كيرلس أمامها مستوصف صحى تابع للمركز الدينى الكبير. الكنيسة والمستوصف وسط تكدس عمرانى هائل ترك بالكاد ممرا ضيقا للعبور.

اشتريت نصف كيلو مانجو وجلست على مقهى. لأبحث عن طاحونة البابا كيرلس حتى وجدت فيديوهات لصلوات فى الكنيسة، وتقارير صحفية عنها، واحتفالات قبطية عن الأثر الذى تخفيه الأسوار، وصار موقعا مقدسا يجتذب آلاف الزائرين والمتعبدين، بل إن البابا تواضروس زار المكان الذى يحظى بأهمية فائقة.

كيرلس وفقا لمصادر قبطية أحد القساوسة، وسيصبح فيما بعد البابا كيرلس السادس (السادس فى التسمية بكيرلس) وترتيبه البابا 116 فى رئاسة الكنيسة القبطية. وكان قد لجأ إلى هذه الطاحونة فى ثلاثينيات القرن العشرين واتخذها قلاية للرهبنة طلبا للروحانيات، والاتصال مع الله، ومكاشفات النفس فى تلك الصحراء الموحشة.

تعود قصة البابا كيرلس إلى أقل من 100 عام. هذا المكان الذى لا مكان فيه لقدم الآن كان صحراء مهلكة قبل قرن، ولم يكن يصلح إلا لترويض النفس.

فى عزبة خير الله المحيطة بكنيسة الطاحونة أسواق، ومساجد، وعمائر، ومحال تجارية. وعلى مرمى حجر من الطاحونة مخازن للأخشاب وعدة ورش لإعادة تدوير المخلفات يعمل فيها أطفال صغار.

أسفل الهضبة، على بعد خطوات من عزبة خير الله، نزلت إلى الفسطاط الجديدة.

مررت بموقع أثرى شهير كان مثارا للأساطير لنا ونحن صغار فى مصر عتيقة، يحمل الموقع اسم السبع بنات كان قرينا للأشباح والجنيات الفاتنات، وإذا به اليوم محاطا بتكدس عمرانى نزع منه كل السحر والأساطير وقد أحاطت به ورش عديدة تسعى إلى التهامه.

أحصيت الأبنية السبعة فوجدتها ستة فقط، مما يعنى أن البناء الأثرى السابع ضاع وأكلته يد العدوان العمرانى. تجولت فى الفسطاط الجديدة قبل أن أتركها إلى عين الصيرة.

فى الطريق مررت على إعادة تنظيم الفضاء الجغرافى الأثرى فى المنطقة التى نقلت إليها دار الكتب والوثائق المصرية ومتحف الحضارة. صار الشارع نظيفا ومنظما ويدعو للسعادة، ويحمل اسم شارع الفسطاط وينتهى إلى عقدة من الكبارى تصل إلى طريق صلاح سالم والسيدة عائشة والمقطم.

قطعت مسافة لا بأس بها فى عزبة خير الله وطاحونة البابا كيرلس. استوقفنى على الخريطة اسم أب تاون كايرو، وهو تجمع عمرانى جديد فوق هضبة المقطم يبدو أنه يحمل أسعارا فلكية بحدائقه وفيلاته ومسطحاته الخضراء وخصوصية السكن فيه واتساع فضاء الحركة والراحة والاستمتاع.

عقدت مقارنة سريعة بين عزبة خير الله التى جاءها المهاجرون المعدمون وسكنوا هنا بنظام وضع اليد متلاصقين فى سجن اسمنتى لا يعرف أية خصوصية وبين آب تاون كايرو التى لن يسكنها إلا ذو حظ عظيم. كلاهما على سطح الهضبة الجيرية ذاتها، وكلاهما لسكان مصريين، ربما أيضا جاءوا من الوادى أو الدلتا أو ولدوا هنا.

مقالات ذات صلة
- Advertisment -

الأكثر شهرة

احدث التعليقات