بقلم حمدى عبد العزيز..
المجد لروح المستشار حكيم منير صليب .. القاضي الذي سجل اسمه بحروف لاتمحي في ضمير الشعب المصري ..
انتدبه النظام الحاكم في قضية انتفاضة 18 ، 19 يناير 1977 ليحاكم الشعب ويجرم انتفاضته .. فإذ به يحاكم النظام ويسجل أبلغ أدانة تاريخية لسياساته من على منصة القضاء ويعلن في شجاعة وجسارة وضمير حي أن سياسات النظام هي مبرر إندلاع الإنتفاضة ويقدم في حيثيات حكمه واحدة من أرفع أدبيات القضاء المصري ..
أقتطع من نصها فقرات في غاية العمق والدراسة والدقة في التعبير عما كانت عليه الحالة الشعبية المصرية في 18 ، 19 يناير 1977
ودوافع الخروج الشعبي العظيم إلى شوارع مصر وميادينها احتجاجاً على السياسات الإقتصادية وآثارها الإجتماعية على المصريين ومن ثم اندلاع انتفاضة يناير المجيدة ..
يقول المستشار الجليل حكيم منير صليب في حيثيات الحكم ببرائة المتهمين الذين قدمهم النظام لمحاكمة الإنتفاضة الشعبية
( … ولكن المحكمة وهى تتصدى لتلك الأحداث بالبحث والاستقصاء لعلها أن تستكشف عللها وحقيقة أمرها لابد أن تذكر ابتداء أن هناك معاناة اقتصادية كانت تأخذ بخناق الأمة المصرية فى ذلك الحين وكانت هذه المعاناة تمتد
لتشمل مجمل نواحى الحياة والضروريات الأساسية للإنسان المصرى، فقد كان المصريون يلاقون العنت وهم يحاولون الحصول على طعامهم وشرابهم ويجابهون الصعاب وهم يواجهون صعودا مستمرا فى الأسعار مع ثبات مقدار الدخول )
وكما لو أن حكيم منير صليب الذي تسلح بالموضوعية والبحث العلمي المتجرد من دوافع السلطة وضغوطاتها قد شمر عن همته الإنسانية النبيلة وأمسك بمشرط الجراحة ليقوم بتحليل الواقع والظروف والدوافع التي جعلت
المصريين ينفجرون على هذا النحو الرهيب ويخرجون إلى الشوارع والميادين ليقع هذا الحادث الضخم الجلل فيخرج على الجميع ممسكاً بالحقيقة لابغيرها وأياً كانت حسابات ذهب المعز أو سيفه ليسجل للتاريخ ماهو آت :
( .. ، وسط هذه المعاناة كان يطرق أسماع المصريين أقوال المسؤولين والسياسيين من رجال الحكومة فى ذلك الوقت تبشرهم بإقبال الرخاء وتعرض عليهم الحلول الجذرية التى سوف تنهى أزماتهم وتزين لهم الحياة الرغدة
الميسرة المقبلة عليهم، وبينما أولاد هذا الشعب غارقون فى بحار الأمل التى تبثها فيهم أجهزة الإعلام صباح مساء إذ بهم وعلى حين غرة يفاجأون بقرارات تصدرها الحكومة ترفع بها أسعار عديد من السلع الأساسية التى
تمس حياتهم وأقواتهم اليومية، هكذا دون إعداد أو تمهيد، فأى انفعال زلزل قلوب هؤلاء وأى تناقص رهيب فى الآمال وقد بثت فى قلوبهم قبل تلك القرارات وبين الإحباط الذى أصاب صدورهم ومن أين لجل هذا الشعب ومعظمهم
محدود الدخل أن يوائموا بين دخول ثابتة وبين أسعار أصيبت بالجنون، وإذا بفجوة هائلة تمزق قلوب المصريين ونفوسهم بين الآمال المنهارة والواقع المرير، وكان لهذا الانفعال وذلك التمزق أن يجدا لهما متنفسا، وإذا
بالأعداد الهائلة من هذا الشعب تخرج مندفعة إلى الطرقات والميادين وكان هذا الخروج توافقيا وتلقائيا محضا، وإذا بهذه الجموع تتلاحم هادرة زاحفة معلنة سخطها وغضبها على تلك القرارات التى وأدت الرجاء وحطمت الآمال ..)
ثم يصل في الفقرة التالية إلى صلب الحقيقة التي وصل إليها ضمير القاضي الشجاع النزيه ليخلص إلى جوهر الحكم في العبارة القضائية التي انصفت المصريين وحولت الحكم التاريخي إلى حكم بالإدانة للنظام السياسي الحاكم :
( … والذى لا شك فيه وتؤمن به المحكمة ويطمئن إليه ضميرها ووجدانها أن تلك الأحداث الجسام التى وقعت يومى 18 و19 يناير 1977 كان سببها المباشر والوحيد هو إصدار القرارات الاقتصادية برفع الأسعار فهى متصلة بتلك القرارات اتصال المعلول بالعلة والنتيجة بالأسباب ..)
هكذا هى القامات التي تدخل التاريخ من أوسع أبوابه وتستقر في وجدان الأمة المصرية ..